العدسة – منصور عطية
كان ينتظر من البلد التي تحتضن الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين أن تتصدر طليعة داعمي قضية ثالث الحرمين والقبلة الأولى، غير أن الواقع يشير إلى عكس ذلك.
حيث بدت قضية القدس التي تفجرت مؤخرًا بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتبارها عاصمة موحدة للاحتلال الإسرائيلي، هامشية بالنسبة لحكام المملكة العربية السعودية.
القدس على الهامش
وربما ليس أدل على هامشية قضية القدس بالنسبة لحكام السعودية، خلافًا لما هو معلن، هو التمثيل المتدني للمملكة في القمة الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي في مدينة إسطنبول التركية حول القدس، حيث مثّل المملكة “نزار عبيد مدني” وزير الدولة للشؤون الخارجية.
القيمة الدينية والروحية والتاريخية للسعودية بصفتها مهد الإسلام، وقبلة مليار و700 مليون مسلم، وحاضنة الحرمين الشريفين، كانت تحتم عليها ابتداء أن تكون الداعية لانعقاد القمة الطارئة، لكن لم تغب عن هذا فحسب، بل كان تمثيلها منخفضًا.
نزار مدني
ومن المنطقي أن ينعكس مستوى المشاركة في القمة على مواقف مختلف الدول من قضية القدس، حيث شارك في القمة 16 زعيمًا على مستوى رؤساء وملوك وأمراء، من أفغانستان وأذربيجان وبنجلادش وإندونيسيا وفلسطين وغينيا وإيران وقطر والكويت وليبيا ولبنان والصومال والسودان وتوجو والأردن واليمن، فضلًا عن الرئيس التركي.
اللافت، أن أعمال القمة “الطارئة” تتزامن مع افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة السابعة لمجلس الشورى السعودي، والتي حضرها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وألقى كلمة تناولت في طياتها استنكارًا للقرار الأمريكي.
إذن، فالملك سلمان في حالة صحية مواتية، وتسمح له بالمشاركة في الفعاليات وإلقاء الكلمات على الهواء مباشرة، لكن أليس حضور الملك سلمان في قمة إسطنبول كان أولى من مجلس الشورى، خاصة أن القمة طارئة، وتم تحديد موعدها قبلها بوقت كاف؟ أم أن الخلاف السياسي بين المملكة وتركيا هو ما دفع لهذا التمثيل المنخفض؟.
الملك سلمان في مجلس الشورى
هذا الخلاف اتسعت هوته في أعقاب الدعم التركي غير المسبوق لقطر ضد دول الحصار التي تتزعمها السعودية، فضلًا عن موقف أنقرة من مصر والإمارات حليفي المملكة ومشاركيها في الحصار.
لا تستغرب!
لكن الموقف السعودي من قمة إسطنبول، والذي يصل لحد التجاهل، ليس مستغربًا، ويتماشى مع مواقف المملكة السابقة فيما يخص قضية القدس، حتى قبل أن يعلن “ترامب” قراره.
تقارير إعلامية نقلت عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، قوله: إن “ترامب” أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره.
وأشار إلى استبعاده ردود فعل جدية من قبل هؤلاء الزعماء تتجاوز التقديرات السائدة في واشنطن وتل أبيب، بقوله: “هناك فرق بين الإعراب عن موقف معارض، وبين توجيه رسالة كسر أوانٍ”.
قادة عرب في القمة العربية
وتابع “كاتس”: “وبما أن الرئيس “ترامب” أعلن قراره بعد هذه الاتصالات، فهو يعكس أنه لم يتلق مثل هذه الرسائل (كسر الأواني) من الزعماء العرب الذين يعتمدون كثيرًا في هذه الأيام على السياسة الأمريكية ويحتاجون إلى الأمريكيين، وأيضًا إلى إسرائيل، في مواجهة إيران”.
وأضاف أنه “لا يوجد في العالم العربي في الدول الرائدة نفس الحماسة التي نسمعها في الجانب الفلسطيني، ولا لدى (الرئيس التركي رجب طيب أردوغان)، أو لدى كل محور الإخوان المسلمين، وهذا ليس عن طريق الصدفة”.
واستبعد الوزير بحكومة الاحتلال أن يكون للسعودية ردود فعل سلبية تجاه قرار “ترامب” تؤثر على تحالفها مع إسرائيل.
أكثر من مجرد تجاهل
الموقف السعودي لم يكن متهيئا لقضية القدس فحسب، بل كان متواطئًا فيها مع أمريكا والاحتلال الإسرائيلي، ولعل هذا ما كشفته القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، التي قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًّا”.
وكشف مراسل القناة العبرية أن كلاً من السعودية ومصر “أعطتا “ترامب” الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.
السيسي ومحمد بن سلمان
وتابع المراسل: “ومن المؤكد أن إعلان “ترامب”، وبداية إجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يعتقد البعض أنها قد تشعل المنطقة، لم يكن ممكنًا أن يتم دون التنسيق مع السعودية ومصر، فالفلسطينيون يدفعون ثمن التغييرات الكبرى في المنطقة”.
هذه الخطوات التصعيدية سبقتها خطوات أخرى تمهيدية على مدار الأشهر الماضية، وبدا من خلال العديد من الشواهد والوقائع التي رصدها وحللها (العدسة)، أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي، بخطوات سرية وأخرى علنية تتبرأ منها دائمًا.
وبعيدًا عن الشواهد غير الرسمية وتلك التي يكون أبطالها أشخاصًا ليسوا في منظومة الحكم أو يتمتعون بحيثية كبيرة، أكد مسؤول إسرائيلي (رفض الكشف عن اسمه) لوكالة الصحافة الفرنسية أن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًّا في شهر سبتمبر الماضي، هو ولي العهد محمد بن سلمان.
كما أكد الصحفي الإسرائيلي “أرييل كهانا” الذي يعمل في أسبوعية “ماكور ريشون” اليمينية القومية، في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر في سبتمبر، أن “بن سلمان” زار إسرائيل مع وفد رسمي، والتقى مسؤولين.
وكانت الإذاعة الإسرائيلية الرسمية الناطقة باللغة العربية قالت في السابع من سبتمبر: “إن أميرًا من البلاط الملكي السعودي زار إسرائيل سرًّا، وبحث مع كبار المسؤولين الإسرائيليين فكرة دفع السلام الإقليمي إلى الأمام”.
ولعل عمليات جس النبض اشتدت للغاية خلال الفترة القصيرة الماضية، على نحو تتحين معه السعودية الجديدة، عندما يصل ولي العهد “محمد بن سلمان” إلى العرش رسميًّا، الفرصة لإعلان جريء بتطبيع يساير خطوات أخرى صدمت المجتمع السعودي المحافظ، مثل السماح بالاختلاط، وقيادة المرأة، وغيرهما.
تصفية القضية الفلسطينية
الكاتب البريطاني الشهير “ديفيد هيرست” رأى في مقال نشره موقع “ميدل إيست آي” أن ثمة أجواء هيأها داعمون إقليميون لـ”ترامب” قبل أن يعلن قراره التاريخي.
وأشار الكاتب إلى ما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، عن مصادر رسمية فلسطينية وعربية وأوروبية، أن ولي العهد السعودي اقترح على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال لقائهما بالرياض نوفمبر الماضي، خطة ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وصفتها بأنها منحازة لإسرائيل أكثر من خطة “ترامب” نفسه.
الصحيفة قالت إن “بن سلمان” اقترح خطة تكون فيها الدولة الفلسطينية مقسمة إلى عدد من المناطق ذات حكم ذاتي، وتبقى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة “ملكًا” لإسرائيل، وتكون “أبو ديس” عاصمة فلسطينية، وليس القدس الشرقية المحتلة، وكذلك لن يمنح حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
ورأى “هيرست” أنه جرى الترويج لرؤية ولي العهد، عبر جوقةٍ من الكتاب والصحفيين السعوديين المثيرين للجدل والقريبين من دوائر الحكم بالمملكة، تصب جميعها في المطالبة بالتطبيع مع الاحتلال، والنأي بالنفس عن القضية الفلسطينية، واللعب على وتر “ماذا استفاد السعوديون من فلسطين”؟.
اضف تعليقا