هزم الجميع وأصبح قيس سعيد رئيساً لتونس. ورغم الجهود التي بذلها نبيل القروي، والمحيطون به من أجل إزاحة أستاذ القانون الدستوري عن طريقهم، فقد خذلهم الناخبون وفضلوا انتخاب منافسه بفارق واسع جدا قدّرته شركات استطلاع الرأي بـ77 بالمائة، وهو ما أكده التونسيون عندما نزلوا بالشوارع الرئيسية للمدن التونسية للاحتفال بهذا الانتصار. فبعد ثماني سنوات من اندلاع مشروع الثورة، يشعر غالبية التونسيين بفرح جماعي، وبكونهم قادرين على تغيير السلطة من خلال اختيار الشخصية الأولى في الحكم، ممثلا في رئيس الدولة.

ما حدث في تونس شد العالم، وأحدث رجة في مختلف الأوساط، وأدهش المراقبين والمحللين للظواهر السياسية والاجتماعية. أستاذ عادي بدون تاريخ سياسي، ليس وراءه حزب قوي، ولا تسنده أطراف مالية كبرى، ولا يحسن المناورة، ولا تحركه قوى خارجية. فجأة وبدون مقدمات تحول إلى رقم صعب في المعادلات التونسية. شق طريقه بهدوء وبعيدا عن الأضواء. لم يظهر في وسائل الإعلام إلا نادرا، ولم يعرفه التونسيون إلا بصفته خبيراً في القانون الدستوري. طريقته في الحديث هي التي جعلت منه شخصا متميزا. ولكن الأهم أنه عندما قرر أن يشق طريقه نحو الرئاسة، لم ينفق من المال سوى دنانير معدودة، ولم يعتمد إلا على نفر قليل من الشباب الطلابي، ولم يستنجد إلا بمن سمعه وآمن بمشروعه، وأحس بصدقه وحبه للوطن، فاتخذ منه قائدا وزعيما. هكذا انتصرت صورة الرجل النظيف على شراسة اللوبيات وحملاتها المضادة وسطوة المال الفاسد، وانهزمت أمامه قوة المنظومة القديمة وشوكة الدولة العميقة.

أكدت الجماهير التي احتفلت في الشوارع بانتصار سعيد أن الثورة في تونس لم تتبخر ولم تنهزم، بل لا تزال حية في النفوس والعقول والمشاعر. كما وجهت هذه الجماهير، بتصويتها الكثيف الذي تجاوز ثلاثة ملايين ناخب، رسالة صريحة وواضحة إلى المنظومة القديمة التي اعتقدت بكونها قد انتصرت وأنها تمكنت من القضاء على “الروح الثورية”، وأن البلد تحول من جديد إلى مزرعة خاصة يجوز فيها مرة أخرى تعميم الفساد وترسيخ المظالم، وإطالة زمن السيطرة على الدولة والملك العام.

رغم كل هذه الدلالات الرمزية لانتصار سعيد إلا أن تحويل ذلك إلى تغيير جذري على أرض الواقع لن يكون بالأمر الهين. فالرئيس الجديد تنتظره عقبات شتى، وتتربص به قوى معادية، وهو ما يتطلب منه الكثير من الحكمة والواقعية والخطوات العملية.

من أهم هذه التحديات تشكيل الحكومة الجديدة بعد أن أغلق قوس الانتخابات التشريعية. ليس هو المطالب باختيار الطاقم حكومي لأن ذلك من صلاحيات الحزب الفائز ممثلا في حركة “النهضة”، وأن دوره الدستوري يقتصر على مطالبة رئيس هذا الحزب بذلك. فإن عجزت “النهضة” عن تكوين هذه الحكومة نظرا للتعقيدات التي ستواجهها، يتدخل رئيس الجمهورية من جديد ويطلب من يصفه الدستور بـ”الشخصية الأقدر” التي يحتمل أن تتمكن من ذلك. وفي حال عجزت هذه الشخصية بدورها، فقد يضطر رئيس الدولة إلى حل البرلمان والشروع في انتخابات جديدة، وهو ما يتمناه البعض.

بما أن صلاحيات رئيس الحكومة أوسع من صلاحيات رئيس الجمهورية في ظل نظام شبه برلماني، فإن قيس سعيد مضطر أن ينتظر تعيين رئيس الحكومة، ويأمل أن يكون شخصية متعاونة وقابلة للتفاعل مع المشروع السياسي الذي يؤمن به، والذي يقتضي الشروع في تنظيم انتخابات جديدة لهيئات قاعدية تؤدي إلى إرساء برلمان مختلف عن صورة مجلس النواب القائم على الأحزاب. كما يقتضي ذلك أن يتولى إقناع أعضاء البرلمان الجديد بأن يقبل فكرة حل نفسه والتصويت لصالح الدعوة إلى تعديل الدستور والشروع في انتخابات جديدة ومختلفة. وهو احتمال ضعيف، خاصة وأن أي تعديل للدستور يتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، وهو أمر غير ممكن في السياق الراهن.

من حق رئيس الجمهورية تعيين وزيرين، وهما وزير الخارجية ووزير الدفاع. كما له رأي في اختيار وزير الداخلية. لهذا هو معني بأن يتأكد من كونه قادرا على تشكيل غالبية برلمانية من شأنها أن تساعده على تمرير مشاريعه وأن تدافع عنها. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال المرور عبر الأحزاب التي نجحت وتحولت إلى طرف من أطراف المعادلة.

في ضوء تلك التداعيات، سيكتشف رئيس الجمهورية الجديد تحديات الحكم وعقباته. وسيدرك أنه ليس اللاعب الوحيد في السلطة التنفيذية، وأن البحث عن حلول وسطى هو المنهج الأسلم، وأن منهج التوافق هو الأسلم لتحقيق استمرارية الدولة، وتجنب المواجهة مع هذا الطرف أو ذلك، خاصة في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية حادة.