لا أعلمُ متى أحسستُ بذلك في قلبي؛ تلك النسمة اللطيفة التي عبرت بالفؤادِ فدخلت من أحد جانبيه ولم تخرج من الآخر، وأرست مراكبها على شاطئي الفارغِ من كل شيء، ولم تنتظر حتى طلوعِ الشمسِ لتنصب خيمتها على رمالي، وتدقّ أوتادها في أرضي. كانت احتلالًا كاملًا.. من النوعِ الذي يُحَبّ! من ذاك الذي يستسلم فيه الملوك وتخرّ فيه الممالك ويقبل المواطن بتولية المستوطن رئيسًا عليه.
لا أعلمُ متى أحسستُ بهذا في قلبي؛ هذا السهم النافذ الذي اخترق سويداء القلبِ مستقرًّا مستمرًّا في جعل جراحي الغائرة تنزف، اقتلع السهمُ الخيمةَ وخضّب الرمال بالدماء العالقةِ فيه، ولم يسمح للموجِ بالاقترابِ لغسل الأرضِ من آثار الدمِ الهادر، ولم يرضَ إلا بالإقامةِ في وسط الجزيرةِ الهادئة ليجعلَ نصلَه محورها وحوله تدور الدوائر وتروح وتغدو المصائر.
لا أعلمُ متى أحسستُ بهذا وذاك في قلبي لكنني حتمًا أعرفُ كيف أحسستُ به! هذا النوعُ من القلوبِ التي لديها الحاسة السابعة، وخاصية الاستشعار من بُعد. هذا النوعُ الذي يثير العين لتبكي والجلد ليقشعرَّ حين تمر رائحةٌ لطيفةٌ أو صوتٌ نديٌّ أو مقطعٌ عشوائيٌّ من معزوفةٍ موسيقيةٍ أو بيتا شعرٍ من قصيدةٍ لشاعرٍ غير معروف! لكن الأثر معروف وبيّنٌ على هذا الصدرِ المتنهّد كأن روحَه صعدت إلى السماءِ السابعةِ ولم تنزل كما صعدت! بل سقطَت من الأعلى إلى سابع أرضٍ وضجّت الجوانحُ في الداخل بصوتِ الارتطام.. ولم يسمع أقربُ الحاضرين إلا “هييه..” صغيرة.
هذا النوعُ المتعِب المتعَب.. الذي يدقق في التفاصيل كأنها الأُسس، ويهمل الأساسَ لأن الكل يلاحظه؛ يدقق في زاوية الابتسامة على جانبي الفم، ويهمل الابتسامة نفسها، ويحملقُ إلى ارتخاء العينين أو انتباههما ويهمل النظرة ذاتها. يحلل في “مختبَر” قلبِه “المركّبات” التي تجمع بين عناصر حركة الآخرين وهمساتهم ونبرة الصوت ولمعة العينين وزاوية التبسّم وانقباض الوجه أو انبساطه ويضربهم في سرعةِ أو بطءِ ابتلاعِ الريق؛ ثم يخرجُ الناتجَ انطباعًا كاملًا عمّن أمامه! وكل هذا في جزءٍ من الثانية.
هذه القلوب المبتلاةُ بالحساسية المفرطة من كل شيء وتجاه كل شيء.. متقلبة مشاعرها تجاه الكلمة الواحدة؛ فتصل إلى مسامعهم على أنها “ملكة” أو على أنها “لكمة”، ولا يعترفون أبدًا بخروج الكلامِ دفعةً واحدة وبقصدٍ بسيط في مجرد “كلِمة”؛ عندهم لا شيءَ مجردًّا؛ وإنما وراء كل قولٍ مغزى، وفي كل زجاجةٍ ملقاةٍ في بحرهم رسالةٌ يقرؤونها.
حين يجتمعُ اثنانِ من أصحاب هذه القلوب، يكون الوضعُ أصعب بكثيرٍ على كلٍّ منهما لأنهما يقومان بعمليّتين؛ الاستقبال والتحليل، ثم تتبعهما عمليتان: الفهم والتفهيم. تمامًا كأن يجتمعَ قمران في ليلٍ واحد! إن حدث فسيراهما الناس ظاهرةً كونيةً هائلة، جديرة بالمتابعة والتأمل.. ووحدهما القمران في الفلكِ نفسه في السماء يرى كلٌّ منهما حقيقة الآخر ويبصر بُثورَه ونتوءاتِه من قُرب، ويضحّي كل منهما بنصف نصيبه من الأشعةِ المضيئة ليواريَ سوءة صاحبه.
مرارةُ هذه القلوب هي البحثُ عن الحلاوة! وحلاوتُها هي تحمّل المرارة وازدرادها في صبر، مؤمنةً أنّ الصبرَ غالٍ ولا يبذَل إلا في سبيل غالٍ.
مسكينةٌ هذه النبتةُ التي تبحث عن دعامةٍ تستندُ إليها، لا تستطيعُ الوقوف بمفردها محلّقةً في الهواء، تبحثُ وتجاهدُ حتى تجدَ جسمًا صلبًا منصوبَ الطول ممشوق الهامةِ تطمئنّ إليه وتلقي بنفسها في حضنه، وتتنفس.. تتنفسُ فقط لأنها ادّخرت مخزونها من البناء الضوئيّ خشيةَ عدم الوصول؛ لأنها إن لم تصل فستعيش –بمخزونها- أطولَ مدةٍ ممكنة؛ لتعلنَ حين تموت أنّها لم تهلك من جوعٍ ولم تمُتْ من خوف؛ وإنما لأنّ رسالتها تمّت وثمارها اكتملت ومسيرتها وصلتْ.. إلى النهاية، وحيدةً مقاوِمة، مستندةً إلى نفسها وواقفةً على ساقِها، مجاهدةً متحمّلة البأساء والضرّاء، ولا يستوي القاعدون غير أولي الضرر.. والمجاهدون!
اضف تعليقا