العدسة – منذر العلي
ربما لم يدرك الجزائريون أن أحد رموز النضال الوطني من أجل التحرير، وأيقونة المصالحة الوطنية في أعقاب سنوات من الحرب الأهلية، سيجثم على صدورهم طيلة هذه المدة، إلى درجة أن مرضه الذي أحاله على كرسي متحرك لم يمنعه من الاستمرار في منصبه.
الرئيس الجزائري “عبدالعزيز بوتفليقة”، عاد ليثير الجدل من جديد، رغم مرور أكثر من سنوات وهو لم يتحدث بشكل مباشر إلى الجماهير، ليدلي بدلوه في الجدل الدائر حول مطالب تنحيته من منصبه لظروفه الصحية والدعوات للجيش الجزائري بالتدخل للإطاحة به.
ففي رسالته إلى الجزائريين عشية الاحتفال بالذكرى 63 لاندلاع ثورة “التحرير” ضد الاستعمار الفرنسي والموافقة للأول من نوفمبر، قال إن “الوصول إلى السلطة في البلاد لن يكون إلا في المواعيد الانتخابية المحددة”.
وأضاف أن “الوصول إلى السلطة بات من الآن فصاعدًا يتم عبر المواعيد المنصوص عليها في الدستور، ومن خلال سيادة الشعب، الذي يفوضها عن طريق الانتخاب على أساس البرامج الملموسة التي تعرض عليه”.
وتابع: “الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني، الذي أتوجه إليه بالتحية باسمكم جميعًا، يتولى بكل حزم مهمته الدستورية في حماية حدودنا من خطر الإرهاب الدولي والجريمة العابرة للأوطان.. لا بد من الإبقاء على هذه المؤسسة الجمهورية في منأى عن المزايدات والطموحات السياسية”.
هذه الرسالة اعتبرت ردًا مباشرًا من الرئيس الجزائري على معارضين دعوا إلى “تدخل الجيش في السياسة من أجل إنقاذ البلاد”، وإجراء انتخابات مبكرة، مرجعين ذلك إلى عجز بوتفليقة عن إدارة الدولة، منذ تعرّضه لجلطة دماغية عام 2013.
وفي أكتوبر الماضي، وقعت 3 شخصيات جزائرية، على بيان يطالب بعدم ترشح بوتفليقة، البالغ من العمر 80 عامًا، لولاية خامسة في 2019، من خلال “جبهة مشتركة” للتغيير وبمساعدة الجيش أو بحياده.
وقع البيان كل من: “أحمد طالب الإبراهيمي” وزير سابق ومرشح للانتخابات الرئاسية في 1999، والمحامي “علي يحيى عبد النور” الذي يعتبر أقدم مناضل حقوقي بالجزائر ووزير سابق، والجنرال المتقاعد “رشيد بن يلس” قائد القوات البحرية سابقًا.
مستقبل غامض
في أبريل 2016 نشر مركز “كارنيجي للشرق الأوسط”، دراسة بعنوان “الجزائر على حافة الهاوية: ماذا حقّقت الأعوام السبعة عشر من حكم بوتفليقة؟” ألقت الضوء على حصاد سنوات حكم الرئيس الجزائري.
وعلى الرغم من الإيجابيات التي عددتها الدراسة، فيما يتعلق بدور “بوتفليقة” في النضال من أجل التحرر من المستعمر الفرنسي، وقيادته جهود المصالحة الوطنية فور تسلمه الرئاسة لأول مرة وبعد 10 سنوات من الحرب الأهلية، وملامح السياسة الخارجية التي أعاد لها دورها، غير أنّ الغموض لا يزال يحيط بمستقبل بلد المليون شهيد.
التقرير قال إنّ “بوتفليقة، الذي كان يُنظر إليه في السابق على أنه يبعث الأمل في نفوس الملايين من الجزائريين، يُعتبر اليوم الرجل الذي لطّخ سمعة الجزائر”.
ولعل أبرز ما قام به في هذا الصدد، وفق الدراسة، تعديل الدستور حتى يتمكن من الترشح لمنصب الرئاسة متجاوزًا الفترتين الرئاسيتين المقررتين في الدستور ليبدأ فترته الرابعة عام 2014.
كما تستر الرجل على الفساد في المستويات العليا، وأيد القوانين التي أضعفت المجتمع المدني، وبمزيجٍ من القمع والهبات السخية بفضل ثروة النفط والغاز في الجزائر نزع فتيل احتجاجات عام 2011 التي أشعلت ثورات الربيع العربي في دولتين مجاورتين للجزائر، هما ليبيا وتونس.
كما أن عدم وجود آلية لتقاسم السلطة بين جميع الأطراف ذات الصلة (أي بين الأحزاب السياسية، والمعارضة، والمجتمع المدني، والسلطتين التشريعية والتنفيذية)، ووجود صراعات داخلية في النظام، يجعلان من الصعب تصور إمكانية تجديد النظام السياسي في الجزائر، بحسب كارنيجي.
وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد نتيجة انخفاض عائدات ثروتها من النفط والغاز بسبب انخفاض أسعارهما عالميًا منذ 4 سنوات، إلا أنّ “بوتفليقة” جعل بلده تتصدر قائمة مشتري السلاح في أفريقيا، بصفقات وصلت قيمتها لنحو 10 مليارات دولار في عام 2014.
قبضة “الكرسي المتحرك”!
ورغم غيابه عن بؤرة الأحداث بعد جلوسه على الكرسي المتحرك، سعى “بوتفليقة” إلى إحكام قبضته على الأجهزة الأمنية لضمان ولائها، ففي منتصف سبتمبر 2015 أقال مدير المخابرات الفريق محمد مدين، وفي يناير 2016 قرّر حل دائرة استعلامات الأمن (جهاز الاستخبارات)، واستحدث جهازًا جديدًا تحت اسم “مديرية المصالح الأمنية” يتبعه مباشرة.
ولد عبد العزيز “بوتفليقة” بمدينة وجدة المغربية عام 1937، وهو من أصول أمازيغية وبدأ في العمل السياسي وهو في الـ19 من عمره وبعد الاستقلال في 5 يوليو 1962 تقلّد منصب وزير الشباب والرياضة والسياحة في أول حكومة للرئيس أحمد بن بلة (1962-1965).
ولم يمنع سنه الصغير (26 سنة) وقامته القصيرة وجسمه النحيف من تعيينه وزيرًا للخارجية خلفًا لمحمد خميستي الذي اغتيل أمام المجلس الوطني (البرلمان) في 11 أبريل 1963، وبقي في هذا المنصب 16 عاما إلى ما بعد وفاة الرئيس “هواري بومدين”.
نال الرئيس الجزائري لقب “مهندس المصالحة الوطنية” التي وضعت حدًا لحرب أهلية استمرت 10 سنوات منذ 1991 وحتى 2001، وأسفرت عن سقوط نحو 200 ألف قتيل.
وصل “بوتفليقة” إلى الحكم بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 1999 بنسبة 90,24% من الأصوات، ثم أعيد انتخابه في 2004 و2009، بعد أن أجرى تعديلًا دستوريًا ألغي تحديد عدد الولايات الرئاسية باثنتين، ثم ترشح لولاية رابعة عام 2014 وأُعيد انتخابه.
في عامه الأول بالرئاسة قدم “بوتفليقة” قانون الوئام المدني للاستفتاء الشعبي ثم ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في 2005 وهو ما سمح بإطلاق سراح آلاف الإسلاميين من السجون وإلقاء السلاح بالنسبة لآلاف آخرين والعودة الى الحياة الطبيعية مقابل “العفو عنهم”.
وكادت رياح “الربيع العربي” أن تصل إلى الجزائر، في 2011 بعد أن مرت على تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، إلا أنّ بوتفليقة أعلن رفع حالة الطوارئ بعد 19 عامًا من فرضها، كما أعلن إصلاحات سياسية واقتصادية كبح فيها جماح التظاهرات التي بدأت في الاندلاع ببلاده.
وفي أبريل 2013 أُصيب الرئيس الجزائري، بجلطة دماغية استدعت نقله إلى العاصمة الفرنسية باريس لتلقي العلاج، عاد بعدها بثمانين يومًا على مقعد متحرك، وتوالت بعدها رحلاته العلاجية.
صراع القوى
في أغسطس الماضي، رجح مراقبون أن يكون قرار “بوتفليقة” المفاجئ بعزل رئيس الحكومة “عبد المجيد تبون”، بعد أقل من ثلاثة أشهر على تسميته في هذا المنصب، على أن الرئيس أصيب بأعراض مرض الرئيس الجزائري الأسبق “الحبيب بورقيبة”.
وتصب جميع التوقعات في أن الرئيس لم يعد قادرًا على مباشرة مهامه الرئاسية، وأن المقربين منه باتوا الماسكين الحقيقيين بزمام القرار.
كما دل اختيار “أحمد أويحيى” خلفًا لتبون على أن “المربع المحيط بالرئيس استكمل وضع مركز القرار في قبضته”، إذ كان أويحيى يشغل منصب مدير الديوان الرئاسي، وهو حليف قوي لشقيق الرئيس سعيد بوتفليقة.
هذا المربع، وفق تحليلات سياسية، استطاع التخلص من رئيس الحكومة الأسبق عبد المالك سلال، بعدما خشي من أن تكون لديه طموحات رئاسية، ثم تخلص من تبون، الذي فتح معركة الفساد، مُتعمدا قصقصة أجنحة رجال الأعمال المقربين من غريمه سعيد بوتفليقة، وفي مقدمتهم رئيس منظمة أرباب العمل علي حدَاد.
ويبدو أن الثنائي سعيد بوتفليقة – أحمد أويحيى اتخذ قرار الاطاحة بتبون في اليوم الذي فرض فيه الأخير على “حداد” أن يغادر القاعة في مناسبة كان مقررًا أن يحضراها معًا.
ويأخذ تبون على حداد أن شركته تسلمت مبالغ كبيرة من الحكومة لتنفيذ مشاريع بنية أساسية، لكنها لم تنجزها، وتحت شعار الفصل بين المال والسياسة، أطلق تبون معركة على الفساد، بدت تحديًا لشقيق الرئيس، واسع النفوذ والمتحكم الفعلي في البلاد، والذي تربطه علاقات حميمية مع حداد ورجال أعمال آخرين تلاحقهم اتهامات بالفساد.
لماذا لا ينقلب الجيش؟
وبالعودة إلى الحديث عن مطالب تنحية “بوتفليقة” ودعوة الجيش للإمساك بزمام الأمور، ناشدت أحزاب وشخصيات سياسية وتنظيمات مدنية، بتطبيق بند المادة 102 من الدستور والتي تنص صراحة على أنه: “إذا استحال على رئيس الجمهوريّة أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبًا، وبعد أن يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التّصريح بثبوت المانع”.
وعلى الرغم من كل المعطيات السابقة، فإنّ موقف الجيش الجزائري كان حاسمًا، وهو ما أكّده رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، الذي كرر 3 خطابات ألقاها أمام عسكريين، خلال عام 2017، بالتزام مؤسسته بالدستور، والخضوع لقائده الأعلى بوتفليقة.
ورغم أن المؤسسة العسكرية في الجزائر كانت توصف دومًا على أنها “صانعة الرؤساء” وهو ما حدث مع بوتفليقة نفسه عام 1999، إلا أنّ الرجل تمكن في فترته الثانية من إحكام السيطرة على الجيش تجلت في تقديم الفريق “محمد العماري” رئيس أركان الجيش الجزائري في أغسطس 2004 استقالته رسميًا، ليعين “بوتفليقة” قائد القوات البرية الفريق “أحمد قايد صالح” خلفًا له، ويبسط سيطرته المطلقة على المؤسسة الأمنية بإقالة الفريق “محمد مدين” في سبتمبر 2015، الذي استلم رئاسة جهاز المخابرات العسكرية منذ 1990، ويقوم بتعيين اللواء “بشير طرطاق” مكانه، وهو أحد مستشاري بوتفليقة للشؤون الأمنية.
الدعم الفرنسي للرئيس الجزائري يبدو في مقدمة عوامل قوته، وهو ما عبر عنه الرئيس إيمانويل ماكرون في رسالة لنظيره الجزائري في أغسطس الماضي وصف فيها حكم الأخير بقوله “لم يسبق عبر التاريخ أن بلغت العلاقات بين بلدينا مثل هذا المستوى من الامتياز والكثافة كما حدث في فترة حكمكم”.
ولعل الإرث الذي يربط البلدين تاريخيًا وجغرافيًا، يجعل من غير المنطقي أن تكون فرنسا مستعدة للإطاحة برئيس تتمتع معه بهذا المستوى من العلاقات المتميزة.
تكرار نموذج الحرب الأهلية في البلاد، يبدو شبحًا يفكر الجميع كثيرًا قبل الاصطدام به، وهو الأمر الذي يضعف أي تفكير من قبل الجيش في الانقلاب على الرئيس، الأمر الذي ينذر بالدخول في دوامة من العنف والتدهور لا يعلم أحد مداها، فضلًا عن الأوضاع المتدهورة بالأساس في محيط البلاد في ليبيا ومالي.
اضف تعليقا