العدسة: محمد العربي
مثل اتفاق الشركاء المتخاصمين في دولة جنوب السودان نقطة ارتكاز عامة في مصير الدولة الناشئة، وهو الاتفاق الذي جاء ليغلق الباب أمام حرب أهلية خلفت ورائها أكثر من ثلاثة ملايين جنوبي بين قتيل ومشرد، كما قضت على كثير من بقايا مقومات الدولة التي رأت النور في يوليو 2011، بعد استفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة والاتحادين الأوربي والأفريقي وجامعة الدول العربية في يناير من نفس العام لتحديد مصير الإقليم الجنوبي للسودان تنفيذا لاتفاقية نيفاشا التي وقعتها حكومة البشير مع الحركة الوطنية لتحرير السودان برئاسة جون جرانج عام 2005.
وتمثل أهمية هذا الاتفاق أنه جاء برعاية سودانية مؤثرة بذل فيها الرئيس السوداني عمر حسن البشير جهودا كبيرة، ليفرض نفسه كلاعب أساسي بديلا عن أطراف أخري طالما تحكمت في المشهد الجنوبي وأبرزهم أوغندا وإثيوبيا وإسرائيل.
مكسب البشير من إنهاء الصراع المسلح بين سيلفا كير رئيس جمهورية الجنوب، ونائبه رياك مشار، فاق مكاسب أبناء الجنوب أنفسهم، حيث كان الاتفاق بمثابة بوابة البشير للمنافسة علي الانتخابات الرئاسية المقبلة بالسودان عام 2020، بالإضافة لغلق أحد الأبواب التي كانت تستخدمها المخابرات المصرية والعالمية لإشعال المشهد الداخلي في السودان، ومن هنا كان الاتفاق مثار كثير من التساؤلات، عن فرص صموده وهل يمكن أن يكون مصيره كمصير اتفاقيات أديس أبابا والقاهرة وتنزانيا، أم أن دخول الخرطوم علي الخط يجعل أهل مكة أدري بشعابها.
إلى النقطة صفر
الاتفاق الذي تم توقيعه قبل ايام أعاد دولة الجنوب لنقطة البداية مرة أخري، بعد سبع سنوات علي الانفصال، حيث وقع رئيس الدولة سيلفا كير، وزعيم المعارضين رياك مشار على اتفاق نهائي لإحلال السلام وإنهاء أزمات الحكم وتقاسم السلطة والترتيبات الأمنية.
ويشير الاتفاق لتوافق الأطراف الموقعة حول المسائل العالقة في الحكم والترتيبات الأمنية بدولة جنوب السودان، وتشكيل قوة عسكرية وأمنية وشرطية، تتكون من قوات متفق عليها من جميع الأطراف وستقوم القوات المسلحة السودانية والأوغندية بتدريب وإعداد تلك القوات حتى تتسلم مهامها مع بداية تنفيذ الاتفاق وخلال الفترة الانتقالية وسيتم انتشارها في العاصمة جوبا وجميع مدن دولة جنوب السودان.
وما يدعو للتفاؤل أن الاتفاق هذه المرة لم يكن قاصرا علي رفقاء السلاح وإنما ضم أيضا ممثلين عن المعتقلين السياسيين، وتحالف سوا المعارض، وعدد من الشخصيات القومية التي لها ثقل في المجتمع الجنوبي، بالإضافة لممثلين عن رجال الدين وآخرين عن منظمات المجتمع المدني، كما وقع كل من الرئيس السوداني ونظيره الأوغندي، كضامنين للاتفاق، وبشهادة من ممثلي الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة ومنظمة الإيجاد.
وبهذا الاتفاق تعود جوبا لنقطة الإنطلاق الأولي بعد الانفصال في تداول السلطة وتوزيع ثروات الدولة الغنية بمواردها الفقيرة في اقتصادها، وربما كان الأهم في المشهد هو تساوي قوي التنازع من حيث القوة في الاتفاق ويتبقي بيان مصداقية ذلك خلال التنفيذ، وهو ما دعا بزعيم المعارضة رياك مشار للتأكيد علي الاتحاد الإفريقي وتجمع الإيجاد باستمرار ضغطهم علي حكومة “كير” لضمان تنفيذ ما جاء في الاتفاق.
وطبقا لمراقبين فإن ما يميز هذا الاتفاق عن غيره ويجعل فرص صموده أكثر هو التغير الجيوسياسي التي تشهده هذه المنطقة الساخنة، وما مثله اتفاق المصالحة التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا قبل أسابيع من قوة دفع ودعم لإنهاء مشاكل أخري عالقة في منطقة وسط وشرق افريقيا وأهمها التنازع في جنوب السودان.
ويضاف لذلك انشغال العديد من اللاعبين السابقين في ملف الجنوب بقضايا اخري داخلية وخارجية، فلم تعد وسط وشرق القارة السمراء منطقة مفضلة لدي الولايات المتحدة في الوقت الراهن التي انشغلت بفتح جبهات مع روسيا والصين وتركيا وإيران، كما انشغلت إسرائيل في ترتيبات المنطقة المشتعلة مع تزايد الحديث عن صفقة القرن التي تمثل الحلم الإسرائيلي بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، أما مصر فقد حققت فشلا مزدوجا في ملف جنوب السودان والذي كاد أن يفجر الأوضاع الأمنية بين القاهرة والخرطوم في ظل اتهامات سودانية لنظام السيسي بأنه أمد المعارضة الجنوبية بالسلاح لتهديد بلادهم، وهو ما حاولت القاهرة نفيه بتبنيها اتفاق للمصالحة بين فرقاء الجنوب إلا أن الإتفاق لم يحقق نجاحا، ولكنه كان أحد أسباب إنهاء التوتر المصري السوداني.
ومن هنا لم يتبقي من اللاعبين الرئيسين في الملف الجنوبي سوي الدولة الأم وهي السودان مع الدولة الحاضنة سابقا للحركة الشعبية لتحرير السودان وهي أوغندا، ولذلك فإن ضمانة كل من الرئيسين السوداني والأوغندي يمثل قوة كبيرة يمكن أن تكون دافعا لتحرك النظام السياسي في جوبا خطوات للأمام.
مكاسب للمسلمين
ويمثل هذا الاتفاق مكسبا خاصا لمسلمي جنوب السودان والذين تقدر نسبتهم طبقا للعديد من الإحصائيات بـ 30% من عدد السكان، إلا أن الحكومة الجنوبية تتعامل معهم باعتبارهم يمثلون 20% فقط، وبالتالي تعمدت عدم إشراكهم في الجهاز الإداري والتنفيذي سواء في الولايات الرئيسية او المحليات، ولذلك جاء مشاركة الشيخ محمد مرجان ممثلا للمؤتمر الإسلامي والذي يعد الجهة الرسمية المُعبرة عن مسلمي الجنوب، في الإتفاق كضمانة بإدماج المسلمين في منظومة الدولة التي رغم علمانيتها السياسية إلا أنها تتباهي بمسيحتها وإفريقيتها.
وما يدعم ذلك أيضا أن الموقعين يمثلون أحزابا وتكتلات سياسية وليست قبلية، وهو ما يصب كذلك في صالح المسلمين المنتشرين في كل الأحزاب السياسية بما فيها حزب الحركة الشعبية الحاكم، وهو الأمر الذي يختلف مع الجانب القبلي الذي تسيطر عليه قبيلة الدينكا بفروعها المنتشرة، ويليها النوير والشلك والتي يمثل فيها العرب والمسلمين بنسبة ليست بالكبيرة.
مكاسب البشير
وبالعودة لمكاسب الرئيس السوداني، فقد استطاع البشير ممارسة دوره المفضل باعتباره رجل التوازنات الأول بالمنطقة، وبرعايته وضمانته لاتفاق الجنوبين فإنه بذلك وضع الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني الحاكم أمام خيار واحد وهو ترشحه لانتخابات الرئاسية المقبلة في 2020، والتي يعول عليها البشير كثيرا، خاصة وأنها حائط صد أمام ملاحقته دوليا بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور.
وبناء علي هذا الترشيح فإن حزب المؤتمر بات ملزما بإدخال تعديلات علي النظام الأساسي للحزب الذي كان يسمح بتولي الرئاسة لفترتين فقط على أن يكون رئيس الحزب هو مرشحه فى انتخابات الرئاسة، كما يتطلب ذلك أيضا تعديل دستور السودان الذي تم أقراره عام 2005، ومازال محل تعديلات أخري بعد انفصال الجنوب عن الشمال.
ورغم أن البشير حقق العديد من المكاسب السياسية خلال الأشهر الماضية منها إنهاء خلافات وصراعات داخلية كادت تعصف بوحدة السودان بهدف تقسيمه لأربعة دول، بالإضافة لإنهاء خلافات إقليمية كما هو الحال مع فرقاء الجنوب وإثيوبيا وأوغندا وإريتريا وكذلك مصر، وحلحلة الموقف الأمريكي تجاه الخرطوم، إلا أن هناك العديد من المحللين ينظرون لخطوة البشير باعتبارها خاطئة وأنها سوف تتسبب في ترسيخ العزلة الدولية للسودان والذي يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة كادت أن تقضي علي عملته المحلية وكان نظام البشير قاب قوسين من ترك مكانه نتيجة الثورة الشعبية التي لم تكتمل.
كوارث الحروب
وقد أدت الحرب التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٣، لنزوح أكثر من ٣.٩ مليون شخص، منهم ١.٩ مليون نازح داخلي، فضلًا عن لجوء أكثر من ٢٠٠ ألف شخص للعيش فى مراكز خاصة بالأمم المتحدة، فيما نزح خلال عام ٢٠١٧ أكثر من ٦٤٠ ألف شخص خارج أراضى جنوب السودان.
ونتيجة للحرب انهت المئات من مؤسسات ولجان الإغاثة الإنسانية وجودها في مدن الجنوب، وهو ما يمثل كارثة كبيرة للشعب الجنوبي الذي يعتمد بنسبة كبيرة في معيشته علي ما تقدمه مؤسسات ومنظمات الإغاثة الدولية من خدمات، إنسانية وإن كان هذا لم يمنعها من ممارسة أدوار أخري سياسية ومخابراتية وتبشيرية.
ويبلغ تعداد سكان الجنوب في إحصاء 2010 الذي علي أساسه تم الدعوة لاستفتاء الإنفصال ثمانية ملايين نسمة، بينما تشير تقارير سودانية أخري إلي أنهم يصلون لعشرة ملايين نسمة، منهم 35% من المسيحيين و30% من المسلمين، والنسبة المتبقية من اللادينين والذين تضاف نسبتهم علي نسبة المسيحيين بما يجعلهم الأغلبية من حيث تعداد السكان.
اضف تعليقا