تلقت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الستين يومًا الأخيرة ضربتين قويتين من أقدم وأقوى حلفائها في منطقة الخليج العربي أضرتا بالمصالح الأمريكية داخليًا وخارجيًا، من جهة قررت المملكة العربية السعودية خفض إنتاج النفط، ومن جهة كشفت تقارير استخباراتية تدخل الإمارات في السياسة الداخلية الأمريكية بما يضر بالصالح العام الأمريكي.
أعلنت أوبك + كارتل، بقيادة المملكة العربية السعودية، الشهر الماضي عن خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا تحالفًا مع روسيا، ما تسبب في إلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية من ناحيتين: تفاقم تكاليف الطاقة الأمريكية في وقت حرج وتأجيج حرب بوتين على أوكرانيا.
أما فيما يتعلق بالإمارات، نشرت صحيفة واشنطن بوست قبل أيام قليلة تقارير تفيد أن الاستخبارات الأمريكية خلصت إلى أنه من الضروري إصدار تقرير سري يلخص “الجهود المكثفة التي تبذلها الإمارات للتلاعب بالنظام السياسي الأمريكي”.
الواقعتان السابقتان جزء من عدد كبير من الأمثلة التي تستوجب على الولايات المتحدة إعادة تقييم العلاقات مع شركائها الخليجيين، وهي العلاقات التي تسلط الضوء على عقود من سياسة الولايات المتحدة الفاشلة في الشرق الأوسط والمتجذرة في دعم الحكام المستبدين الذين ينتهجون سياسات تتعارض ليس فقط مع القيم والمصالح الأمريكية، ولكن العالمية، والإنسانية ككل.
الدعم الأمريكي للحكام المستبدين في الشرق الأوسط لطالما كان أمرًا مرفوضًا من المنظورين الأخلاقي والاستراتيجي، بخاصة وأن شركاء واشنطن في الشرق الأوسط هم من أسوأ منتهكي حقوق الإنسان في العالم.
المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على وجه التحديد، متورطان في انتهاكات واسعة النطاق في الداخل، وتدعم الحكام المستبدين الآخرين في جميع أنحاء المنطقة الذين ينتهجون سياسات قمعية مماثلة.
السعودية والإمارات لا تزالان تقودان حربًا شنيعة في اليمن، تسببت في أسوأ أزمة إنسانية في العالم ومقتل ما لا يقل عن 377000 شخص، وحسب مؤشر فريدوم هاوس للحقوق السياسية والحريات المدنية صُنفت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في مرتبة أقل من روسيا، مع تصنيف الرياض أيضًا في مرتبة أقل من الصين، وجميعها مؤشرات شديدة السلبية.
خلال حملته الانتخابية، تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بضرورة ردع المستبدين ومنتهكي حقوق الإنسان حول العالم، لاسيما إن كانوا من حلفاء الولايات المتحدة، لكنه تراجع عن هذه التعهدات وقرر زيارة المنطقة ومصافحة هؤلاء المستبدين شخصيًا، بل لم تؤد مبادرات الرئيس جو بايدن إلى هذه الدول إلى أي تحسن ملموس بشأن حقوق الإنسان.
في الواقع، يبدو أن العكس هو الذي حدث: منذ زيارته إلى المملكة العربية السعودية في يوليو/تموز، تزايد قمع السعودية والإمارات، وهو أمر حذر منه النشطاء، إذ أكدوا أن مثل هذا المبادرات ستشجع تلك الدول على مزيد من القمع وستعد بمثابة ضوءًا أخضرًا لارتكاب مزيد من الانتهاكات.
بعد وقت قليل من زيارة بايدن السعودية، حُكم على الناشطة الحقوقية والأكاديمية سلمى الشهاب بالسجن 34 عامًا، مع حظر سفر لمدة 34 عامًا بـ “جريمة” نشر تغريدات تدافع عن الحقوق الأساسية في المملكة.
الحكم على سلمى الشهاب يُضاف إلى عدد من الأحكام المطولة التي صدرت مؤخرًا على ناشطين ومنتقدين آخرين للنظام السعودي، كما حكم على فردين من قبيلة الحويطات بالسجن 50 عامًا يليها 50 عامًا من حظر السفر بعد أن رفضا تنفيذ قرارات إخلاء المنازل ليُفسح المجال أمام مدينة نيوم الجديدة البالغ تكلفتها 500 مليار دولار.
حُكم أيضًا على السيدة الخمسينية نورة القحطاني – ناشطة، وأم لخمسة أطفال- بالسجن 45 عامًا لاستخدامها حساب على موقع تويتر ذو هوية مجهولة ينتقد الحكومة السعودية.
أسامة خالد، كاتب ومترجم ومبرمج كمبيوتر سعودي، حكم عليه قبل وقت قصير بالسجن 32 عامًا، كما حكمت المحكمة الجزائية المتخصصة على سعودي أمريكي يبلغ من العمر 72 عامًا بالسجن 16 عامًا بتهمة تغريدات على تويتر.
وبالمثل، بعد أيام من لقاء بايدن برئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان في جدة، احتجزت الإمارات تعسفيا المحامي الأمريكي عاصم غفور بعد إدانته غيابيا بغسل الأموال والتهرب الضريبي.
المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة
الحجة التي تٍدم عادةً للدفاع عن علاقة الولايات المتحدة مع منتهكي حقوق الإنسان في الشرق الأوسط هي أن العلاقات تعزز المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، مثل استضافة قواعد ووحدات عسكرية أمريكية، بما في ذلك أنظمة الدفاع الصاروخي، وكذلك التعاون ضد الإرهاب، وتشكيل حلف للتصدي لتوسع ونفوذ إيران.
على العكس من ذلك، تتسبب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالفعل في زعزعة استقرار المنطقة وتتبعان سياسات تتعارض جوهريًا مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية وحقوق الإنسان، لذلك إذا كان الجميع يعلم أن المصالح تعني أمن وازدهار الشعب الأمريكي وحلفائه، فكيف تتقدم تستمر هذه الدول في التوسع في استخدام مثل هذه السياسات؟
المصالح الأمريكية الحقيقية في الشرق الأوسط – تعزيز الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، وضمان التدفق الحر للنفط – يتم تقويضها باستمرار من خلال السياسات التي يتبناها هؤلاء وغيرهم من “الشركاء”، الذين يواصلون زعزعة استقرار المنطقة، ويؤججون المظالم التي تؤدي إلى التطرف، وما يسمى تسليح النفط سعيًا وراء مصالح النظام فقط دون اعتبار لمصالح البلدان أو الشعوب.
يجب أن تكون السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط موجهة نحو إرساء استقرار إقليمي حقيقي ومستدام، وليس السراب الكاذب الذي قدمه المستبدون والذي يُدعم فقط من خلال القمع العنيف.
الأنظمة الاستبدادية بطبيعتها غير مستقرة بسبب الطبيعة غير الشرعية لحكمها، بسبب عدم وجود انتخابات أو حريات شرعية، كما أن الحكومات الاستبدادية في الشرق الأوسط تتلاعب بالموارد والمؤسسات لتعزيز مصالح النخبة الضيقة، بدلاً من العمل على تعزيز مستوى معيشي جيد للمواطنين.
الأسوأ من ذلك أن تقاعس الولايات المتحدة في مواجهة عنف واستبداد هؤلاء الديكتاتوريين شجعهم على ارتكاب أعمال بشعة مثل اغتيال جمال خاشقجي عام 2018 وتقطيع أوصاله – وهم واثقون جدًا من أن الولايات المتحدة ستواصل سياسة التسامح تجاه انتهاكات حقوق الإنسان.
علاوة على ذلك، يواصل “شركاء” الولايات المتحدة في الشرق الأوسط استخدام عودة المنافسة بين القوى العظمى كشكل من أشكال النفوذ العكسي ضد الولايات المتحدة، مستغلين مخاوف واشنطن من خسارة الأرض بالنسبة لروسيا أو الصين من أجل دفع أجنداتهم الخاصة.
يحدث هذا التلاعب في منافسة القوى العظمى على الرغم من حقيقة أن لا روسيا ولا الصين قادرين أو راغبين في ملء الفراغ الكبير الذي قد يتركه انسحاب الولايات المتحدة من المشهد ووقف الدعم، إذ لا تزال موسكو وبكين غير قادرتين على إنفاق الموارد اللازمة لدعم النظام السياسي والأمني في الخليج الذي يتمحور حول مصالحهما في الشرق الأوسط بسبب الضغوط المحلية والاقتصادات المضطربة والمخاوف الجيوسياسية الأكثر إلحاحًا في جوارهما المباشر.
وكما لم تُتخذ إجراءات ضد انتهاكات حقوق الإنسان، لم تعمل زيارة بايدن إلى المملكة العربية السعودية على تغيير حسابات شركاء الولايات المتحدة الخليجيين تجاه روسيا أو الصين، وبصرف النظر عن قرار أوبك + الذي صدر بالتحالف مع الكرملين، ذكرت وكالة رويترز مؤخرًا أنه في ذروة غزو موسكو لأوكرانيا، استثمرت شركة المملكة العربية السعودية القابضة بكثافة في مجموعات الطاقة الروسية مثل غازبروم وروسنفت ولوك أويل، حتى مع فرض عقوبات على الشركات نفسها، كما وقعت شركة النفط السعودية المملوكة للدولة، أرامكو السعودية، اتفاقية مع شركة النفط الصينية العملاقة سينوبك لمزيد من التعاون وبناء مركز تصنيع جديد في شرق المملكة العربية السعودية.
كما أكدت الرياض مؤخرًا التزامها تجاه الصين باعتبارها “الشريك والمورد الأكثر موثوقية للنفط الخام” بينما وافقت أيضًا على خفض أسعار النفط لعملائها الآسيويين.
أما بالنسبة للإمارات، فقد واصلت العمل كملاذ آمن للقلة الروسية الفارين من العقوبات الغربية، وسافر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب إعلان أوبك + من أجل إعادة تأكيد “العلاقات الودية” و “المصالح المشتركة” بين البلدين.
حتى داخل الولايات المتحدة، بذلت الإمارات جهودًا عبر “إدارات أمريكية متعددة، لاستغلال نقاط الضعف في الحكومة، بما في ذلك اعتمادها على مساهمات مالية في مجالات معينة، وكذلك انتشار سوق شركات الضغط التي تضم بعض المسؤولين وتتلقى الملايين لخدمة أجندة الإمارات”.
تقويض الديمقراطية والأمن في الولايات المتحدة
بالإضافة إلى ما سبق، بذلت هذه البلدان جهودًا شتى في تقويض الديمقراطية والأمن داخل الولايات المتحدة، شملت عدد ضخم من محاولات القرصنة غير القانونية وحملات التأثير والضغط مدفوعة الأجر.
في سبتمبر/أيلول 2021، اعترف ثلاثة عملاء سابقين في المخابرات الأمريكية بالعمل كجواسيس إلكترونيين لدولة الإمارات العربية المتحدة واختراق شبكات كمبيوتر مختلفة في الولايات المتحدة.
وبالمثل، أدين اثنان من موظفي تويتر بتهمة التجسس على حسابات في الولايات المتحدة لصالح حكومة المملكة العربية السعودية، واعتقل رجل سعودي هذا العام في نيويورك لمضايقة وتهديد المعارضين ومنتقدي النظام في الولايات المتحدة وكندا.
هؤلاء المستبدون هم خصوم صريحون للمصالح الإستراتيجية الأمريكية، لذلك يجب على إدارة بايدن اغتنام الفرصة التي يتيحها التشريع الأخير في الكونجرس الأمريكي لوقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإبعاد الأفراد العسكريين الأمريكيين من هذه الدول.
قدم النواب توم مالينوفسكي، وشون كاستن، وسوزان وايلد تشريعات لسحب القوات الأمريكية من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بسبب “العمل العدائي” الذي اتخذته هذه الدول ضد الولايات المتحدة، والذي يؤكدون بأنه يشكل “نقطة تحول” في العلاقات الثنائية.
بالإضافة إلى ذلك، اقترح النائب رو خانا والسناتور ريتشارد بلومنثال تشريعات لوقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية و “إعادة التوازن” للعلاقة مع الرياض، بينما دعا السناتور كريس مورفي إلى تعليق مبيعات الصواريخ جو – جو إلى المملكة العربية السعودية وإعادة توجيه هذه الأسلحة لمساعدة الأوكرانيين.
ستكون هذه خطوات قيّمة، ويمكن للولايات المتحدة تضخيم تأثيرها بتطبيق عقوبات قانون ماغنيتسكي لمحاسبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد على أفعالهما.
علاوة على ذلك، يجب أن تركز السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط على بناء العلاقات مع المجتمع المدني في هذه البلدان ورفع أصوات النشطاء، وليس تدليل الحكام الذين يقمعونهم.
بطبيعة الحال، فإن إعادة توجيه مثل هذه الاستراتيجية ستكون معقدة وستستغرق بعض الوقت لوضع القطع في مكانها بعناية، لتجنب حدوث نتائج عكسية على حياة أولئك الذين يتحدون هؤلاء الحكام الاستبداديين، لكن الهدف يجب أن يكون إنهاء التواطؤ الأمريكي في تلك الانتهاكات، مع مساعدة شعوب الشرق الأوسط في السعي نحو مستقبل أكثر إشراقًا.
إن دعم الفاعلين الاستبداديين الذين لا يستطيعون البقاء في السلطة إلا من خلال القمع الشرس والاستقطاب الانتقائي هو وصفة لعدم الاستقرار، لذلك يجب أن تستند أي علاقات ذات مغزى وانخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى أكثر من مجرد صفقات ومبيعات أسلحة؛ يجب أن يقوم التحالف على إطار يعكس القيم الديمقراطية والمصالح الإستراتيجية.
من أجل القيام بذلك، من الضروري إنهاء الفكرة الخاطئة القائلة بأن الحكام المستبدين في الشرق الأوسط هم “تقدميون” أو “ذوو عقلية إصلاحية” – كما يصور كل من ولي العهد السعودي محمد والشيخ الإماراتي، بل ويدعون أنهم يمثلون حلاً حقيقيًا لـ مشاكل المنطقة في حين أنهم في الحقيقة هم المشكلة.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا