منذ سقوط الاتحاد السوفيتي ومعقل الشيوعية قبل ما يزيد قليلًا عن ثلاثين عاما، لم تفقد الولايات المتحدة والعالم الغربي افتتانهما بعد بتلك القوة العظمى المنافسة القديمة. على مدار العقود الثلاثة كقوة تدخلية فخورة ذات سيادة شبه تامة على الساحة العالمية، لم تستطع واشنطن -إلى جانب حلفائها- أن تجعل نفسها تنظر بعيدا عن موسكو. كما أن الصحافة والمحللين الغربيين واصلوا أيضا -ومن بعدهم صناع السياسة- النظر إلى روسيا بنفس الرهبة والحذر كما فعلوا على مر العقود.
لا يمكن إنكار أن روسيا استعادت الكثير من نفوذها الجيوسياسي، فقد تمكنت مرة أخرى من الوصول المضمون إلى موانئ المياه الدافئة وشبكة من القواعد العسكرية والبحرية حيث يمكن لقواتها ومرتزقتها العمل بأمان، وتمكنت من الحفاظ على نفوذها كحامي للحكام المستبدين، أولا في سوريا حيث ساعدت الأسد طوال الحرب، ومؤخرا في كازاخستان، حيث ساعدت الحكومة على قمع الانتفاضات.
من الواضح أن بوتين وحكومته قاتلوا طويلا بذكاء لتصعيد ذلك مرة أخرى إلى النفوذ الإقليمي والدولي.
ولكن في حين أن العواصم الأمريكية والغربية مشغولة بكل هذا القلق على مر العقود الماضية، خاصة مع كل الذعر المحيط بالضم الروسي الحالي لأجزاء من أوكرانيا ووجود قوات غربية لردعه ومواجهته، يبدو أنهم نسوا أن موسكو ليست قوة عظمى بعد. حيث أن ناتجها المحلي الإجمالي أصغر من الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا، على الرغم من براعتها العسكرية.
حتى السنوات الأخيرة، فشلت الولايات المتحدة إلى حد كبير في رؤية تهديد آخر أقوى بكثير وهي الصين. من خلال المشاريع العالمية الكبرى مثل مبادرة الحزام والطريق أو “طريق الحرير الجديد”، نجحت بكين في توسيع قوتها مع تقديم وقتها، ولعبت اللعبة الطويلة في التفوق على الولايات المتحدة في كل مجال وخصوصا الصناعة.
في حين انخفضت الصناعات الأمريكية المحلية، وفي بعض المنتجات انهارت تماما، جعلت الصين نفسها بسعادة جزءا معقدا من السوق العالمية وسلاسل التوريد، مع استخدام “عمالة الرقيق” للقيام بذلك، والحفاظ على كل صناعة وشركة على أراضيها تحت سيطرة الدولة المشددة. لا يتطلب الأمر عبقرية لرؤية أن بكين تنافس واشنطن بجدية باعتبارها القوة العظمى العالمية.
من الناحية الجيوسياسية، شوهد هذا أكثر من حيث الشرق الأوسط، المنطقة التي كانت ملعبا للسياسة الخارجية الأمريكية على مدى نصف القرن الماضي، وهي تنزلق الآن من أيدي الولايات المتحدة من خلال سلسلة من عمليات الاستحواذ الصينية الأخيرة.
في بداية هذا العام، انضم كل من المغرب وسوريا إلى مبادرة الحزام والطريق، مضيفين نفسيهما إلى القائمة الطويلة لأكثر من 140 دولة بالفعل جزء من هذا المشروع. في الوقت نفسه تقريبا، بدأت إيران اتفاقها الاستراتيجي الذي دام 25 عاما مع الصين، وفي منطقة الخليج، تسعى بنشاط إلى إقامة شراكة استراتيجية مع مجلس التعاون الخليجي ووضع الملكيات العربية إلى جانبها.
هذا هو الحال بشكل خاص مع المملكة العربية السعودية، التي وافقت على تعزيز التعاون العسكري مع الصين، وتقوم أيضا بتطوير قدراتها النووية بمساعدة صينية مباشرة. حتى إسرائيل -الحليف الذي تلتزم به الولايات المتحدة أكثر- قامت باستبدال أمريكا بالصين كمصدر رئيسي للواردات.
عند النظر إلى مثل هذه التطورات، يصبح من الواضح أن بكين تهدف إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع دول المنطقة، بغض النظر عن انقساماتها ومنافساتها المستمرة. إنها لا تختار إيران على الخليج أو العكس، أو دول “محور المقاومة” على حلفاء أمريكيين، بل إنها تتجاوز السياسة الداخلية للشرق الأوسط التي حيرت القوى الأخرى وأغرقتها على مر العقود والقرون.
على عكس الولايات المتحدة، لا تجعل الصين مساعدتها تشترط بالسياسات الداخلية للدولة أو حتى السياسة الخارجية، حتى إنها لا يطالب بدعم حقوق الإنسان، كما أنها لا تضايف الحكومات لإصدار إصلاحات معينة أو الالتزام بمجموعة من القيم -وهي عملية أزعجت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، فبالنسبة لهم، أثبت الحزب الشيوعي الصيني أنه شريك تجاري وراعي مثالي.
هذا بالطبع هو جوهر جاذبية بكين، وقد سُمح لها بالقيام بما ادعت واشنطن القيام به خلال “الحرب على الإرهاب”: كسب القلوب والعقول. شوهدت مثل هذه الجهود في بعض الأعمال الخيرية، مثل إعفاء الصين من 25.3 مليون دولار من الديون المستحقة على موريتانيا، وحتى من خلال بيانها بأنه لا يوجد فراغ في السلطة في الشرق الأوسط عند التراجع الأمريكي وأن المنطقة لا تحتاج إلى بطريرك أجنبي. ومع ذلك، فإن القلوب والعقول التي يتم الفوز بها هي في الوقت الحالي الحكومات العميلة وليست الشعوب.
على الرغم من بعض المقاومة الضئيلة من دول مثل أرض الصومال، التي رفضت المحاولات الصينية لإجبارها على إنهاء علاقاتها مع تايوان، لا تزال “الجمهورية الشعبية” تبرز كخليفة رئيسي لواشنطن في المنطقة.
على الرغم من حدوث كل ذلك، إلا أن الولايات المتحدة لا تستجيب بشكل غريب لحقيقة أن السجادة يتم سحبها من تحت أقدامها في الشرق الأوسط. بصرف النظر عن استمرار جمع المعلومات الاستخبارية، لا يتم القيام بأي شيء ملموس -على الأقل علانية- لمواجهة الاستيلاء على هيمنتها.
كان أكبر إجراء اتخذته، حتى الآن، فيما يتعلق بعلاقات إسرائيل مع الصين، هو تحذير تل أبيب قبل عامين من أن تلك العلاقات قد تؤثر على شراكة واشنطن مع إسرائيل. في حين أن ذلك أدى كما هو متوقع إلى انسحاب إسرائيل من بعض صفقاتها المقترحة مع الصين وإعطاء الأولوية للولايات المتحدة، فقد تم تطبيق معظم هذا الضغط الأمريكي من قبل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي اتخذ موقفا حازما ضد الصين في السياسة الداخلية والخارجية.
من ناحية أخرى، اتهم منتقدو الرئيس الحالي جو بايدن باتخاذ موقف استرضاء تجاه التهديد الصيني. على الرغم من أنه أشار علنا إلى الحاجة إلى مواجهة نفوذ الصين، وفرضت إدارته قيودا على التجارة مع بكين بسبب استخدامها للأويغور المضطهدين من أجل “عمالة الرقيق”، إلا أنه استعان إلى حد كبير بمصادر خارجية لسياسة الصين في البلاد إلى الكونغرس.
في استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ التي نشرتها إدارته مؤخرا أيضا، ذكرت أنه في حين تعترف بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ “كمركز ثقل العالم” وتشير إلى “السلوك الضار” للصين، فإنها لا تزال “تلتمس العمل مع جمهورية الصين الشعبية في مجالات مثل تغير المناخ وعدم الانتشار”. قد يفسر البعض هذا المزيج من الحذر والدبلوماسية على أنه نهج معقول وعملي، ولكن يبدو بشكل متزايد أنه بدلا من ذلك نهج مشوش وغير متماسك.
ببساطة، القضية ليست أن إدارة بايدن تنفذ الاستراتيجية أو السياسات الخاطئة، ولكنها لا تنفذ استراتيجية واضحة على الإطلاق. ولا يوجد مكان يظهر فيه انعدام النشاط للدفاع عن هيمنتها أكثر مما هو عليه في الشرق الأوسط، وهي واحدة من المناطق الرئيسية التي وضعتها الصين نصب عينيها.
في حين تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الأمريكية منذ إدارة أوباما لفتت الانتباه إلى التحول الاستراتيجي إلى آسيا وبعيدا عن الشرق الأوسط، والذي حاول ترامب التركيز عليه بشكل خاص، فإن بكين تقدم نفسها بنجاح كشريك أكثر سهولة وموثوقية من واشنطن تجاه دول المنطقة.
وسط التراجع الأمريكي، تتقدم “سرقة الصين الكبيرة” لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بمعدل أسرع مما كان متوقع سابقا.
اضف تعليقا