العدسة – منذر العلي
من المتعارف عليه أن كل مسؤول يخلف آخر، يقرب من يدينون إليه بالولاء مقابل إزاحة المقربين من سلفه، والأمر يصبح أكثر وضوحًا لدى الحكام، خاصة في الدول ذات الحكم الملكي التي لا تعتمد انتخابات في اختيار قادتها.
لكن الأمر في السعودية الجديدة، التي بدأت تتضح معالمها منذ وفاة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في يناير 2015، وما تلاها من أحداث تصب جميعها في خانة واحدة وهي تمهيد طريق العرش لولي العهد الشاب الثلاثيني الأمير محمد بن سلمان.
فبينما يصفه كثيرون بالتهور والاندفاع، يراه آخرون طامحًا ودؤوبًا في السعي نحو غايته، وواضحًا في مسلكه ونهجه الجديد لحكم البلاد الغنية بالنفط، والتي تضم أقدس البقاع لدى المسلمين في الأرض.
” بن سلمان “
الخطوة الأخيرة في اتجاه “بن سلمان” نحو العرش كانت فيما سُمي بمذبحة الأمراء، التي أسفرت عن إقالة واعتقال العديد منهم بالإضافة إلى وزراء ونواب وزراء ومسؤولين سابقين.
وكما تساهم الخطوة وغيرها في توطيد أركان حكم “بن سلمان” وتعزيز سيطرته على مفاصل السلطة، فإنها تطيح برجال لطالما عُرفوا بولائهم للملك الراحل “عبد الله” أو على الأقل بمعاداتهم أو معارضتهم للحاكم الجديد.
البداية قوية
غير أن تلك الخطوة سبقتها خطوات أخرى بدأها الملك سلمان بن عبدالعزيز في أسبوعه الأول بالحكم، وبدأ نشر بعضها حتى قبل بدء مراسم دفن أخيه الراحل.
ففي 23 يناير 2015، شملت أوامر تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز وليا للعهد والأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد، وتعيين الأمير محمد بن سلمان وزيرا للدفاع ورئيسا للديوان الملكي، وإعفاء خالد بن عبد العزيز التويجري من منصبه كرئيس للديوان الملكي، كما قضت بإعفاء التويجري من منصبه رئيسا للحرس الملكي، وتكليف الفريق أول حمد بن محمد العوهلي بالقيام بعمل رئيس الحرس الملكي، وتعيين حمد بن عبد العزيز السويلم رئيسا لديوان ولي العهد، قبل إلغائه لاحقًا.
“التويجري” الذي كان يوصف بالرجل القوي وصانع الملوك، تمتع بدرجة عالية من القرب من الملك الراحل ونجله “متعب”، وكان مطلعًا على أدق تفاصيل حياته وأسراره، كما يُرجِع إليه كثيرون العديد من القرارات التي اتخذها الملك عبد الله.
فمنذ تعيينه وليًا للعهد، اصطحب الملك عبد الله “التويجري” من وزارة الحرس الوطني ليكون مستشارًا وسكرتيرًا خاصًا له ونائبا لرئيس ديوان ولي العهد، كما شغل منصب الأمين العام لهيئة البيعة، ثم عُيّن في 2009، مشرفًا على الحرس الملكي ورئيسا للجنة الدائمة به.
وفي عام 2011 تم إصدار قرار بدمج رئاسة مجلس الوزراء مع الديوان الملكي، وتعيين خالد التويجري رئيسًا لها بمرتبة وزير، بالإضافة إلى تعيينه سكرتيرًا خاصًّا لدى الملك عبد الله.
وفي 29 يناير 2015، أزاح سلمان اثنين من أبناء الملك الراحل، هما الأمير مشعل بن عبد الله وأخوه تركي من إمارتي منطقتي مكة المكرمة والرياض، وعين مكانهما الأميرين خالد الفيصل وفيصل بن بندر على الترتيب.
” خالد التويجري “
الأمير “مقرن بن عبد العزيز”
الأمير “مشعل بن عبد الله”
الأمير “تركي بن عبد الله”
الأوامر الملكية التي وُصفت بأنها الخطوة الأولى في طريق التخلص من تركة الملك عبد الله، وقيل إن ورائها “بن سلمان” الذي لم يلمع نجمه بعد، تضمنت أيضًا الإطاحة بالأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز من منصبه كأمين عام لمجس الأمن الوطني، ومستشار ومبعوث خاص للملك، والأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز من منصبه كرئيس للاستخبارات العامة، وعين بدلًا منه في رئاسة الاستخبارات العامة الفريق خالد الحميدان.
ومن بين أبرز الإعفاءات التي شملتها قرارات العاهل السعودي إعفاء الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، وتعيين الدكتور عبد الرحمن السند في منصبه، وإعفاء رئيس هيئة مكافحة الفساد محمد بن عبد الله الشريف وتعيين خالد بن عبد المحسن المحيسن بدلا منه، وإعفاء رئيس الهيئة العامة للطيران المدني الأمير فهد بن عبد الله بن محمد آل سعود من منصبه، وإعفاء الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى من عضوية هيئة كبار العلماء.
الأمير “خالد بن بندر بن عبد العزيز”
وهكذا تضمنت التغييرات عددًا كبيرًا من المسؤولين من خارج الأسرة الحاكمة ينتمون إلى عائلات معروفة بقربها وولائها للملك الراحل، في مقدمتها عائلتا التويجري والشريف، وبرحيل “التويجري” عن القصر فقد معظم آل التويجري المناصب العليا التي كانوا يتولونها في مؤسسات الدولة المختلفة، مثل المهندس عبد العزيز التويجري رئيس المؤسسة العامة للموانئ السعودية.
سيطرة وإزاحة
وبعد 3 أشهر بالتمام، أي في 29 أبريل 2015، صدرت الحزمة الثانية من الأوامر الملكية، حيث أقرّت إعفاء الأمير مقرن بن عبدالعزيز من ولاية العهد “استجابة لرغبته” واختيار “ابن نايف” وليًّا للعهد، وتعيين “محمد بن سلمان” وليًّا لولي العهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء وزيرا للدفاع ورئيسا لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
وبهذا التعيين، لم يعد بن سلمان قادرًا على تولي منصب رئيس الديوان الملكي، فأعفي منه وكلف به حمد بن عبد العزيز السويلم.
الأمير “سعود الفيصل”
وفي اليوم ذاته، أُعفي الأمير سعود الفيصل من منصبه كوزير للخارجية، بعد أن شغل هذا المنصب لعشرات السنين تربع خلالها على عرش أقدم وزير خارجية في العالم، وعيّن بدلًا منه دبلوماسي مخضرم من خارج العائلة المالكة وهو عادل الجبير.
وفي 22 أبريل 2017 أصدر العاهل السعودي أمرا ملكيا، بتعيين الأمير خالد بن سلمان بن عبد العزيز سفيرا للمملكة في الولايات المتحدة الأمريكية بمرتبة وزير، ووفقا للأمر الملكي فقد تم إعفاء الأمير عبد الله بن فيصل بن تركي من منصبه.
الأمير “خالد بن سلمان”
وقالت تقارير إعلامية: إن “محمد بن سلمان” ينوي إعداد أخيه لتعيينه في منصب وزير الخارجية، بعد الإطاحة بالجبير، لتتم له السيطرة على هذه الوزارة السيادية.
وتزامن مع هذا إبعاد “عبد العزيز” نجل الملك عبد الله ونائب وزير الخارجية عن كافة القضايا والملفات الهامة، حيث قيل إنه كان شريكًا مع عمه الأمير أحمد بن عبد العزيز وزير الداخلية الأسبق والأمير محمد بن سعد النائب السابق لأمير الرياض، في معارضة البيعة للأمير “بن سلمان” وليا للعهد.
الأمير “عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز”
وشملت الأوامر تعيين الأمير الفريق ركن فهد بن تركي قائدا للقوات البرية، بدلًا عن الفريق عيد الشلوي.
كما تضمنت الأوامر الملكية بسط نفوذ “بن سلمان” على الإمارات المختلفة، بتقريب جيل جديد من الأمراء الشباب وتعيين 8 منهم نوابًا لأمراء المناطق، في خطوة عزز بها الملك سلمان نظرة السعوديين إليه برغبته في تمكين أجيال جديدة من الشباب.
وكانت الأوامر الملكية الأكثر إثارة للجدل، على طريق التمهيد لاعتلاء ابن سلمان عرش المملكة في 21 يونيو 2017، بإعفاء “بن نايف” من ولاية العهد ومن منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ومنصب وزير الداخلية، وتعيين “بن سلمان” بدلًا عنه.
الأمير “محمد بن نايف”
هذه الأوامر تضمنت حزمة من التعيينات والإقالات، التي عزز بها “بن سلمان” سيطرته على العديد من الملفات العسكرية والأمنية والخارجية، كما قرب أمراء جددا بتعيينهم في مناصب بالإمارات المختلفة.
وكانت كالتالي:
تعيين الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف وزيرا للداخلية، وإعفاء عبد الرحمن الربيعان نائب وزير الداخلية من منصبه، وإعفاء ناصر الداوود المستشار بالديوان الملكي من منصبه وتعيينه وكيلًا لوزارة الداخلية، وتعيين الأمير فيصل بن سطام بن عبد العزيز سفيرا للمملكة لدى إيطاليا، تعيين الدكتور أحمد بن محمد السالم نائبًا لوزير الداخلية، وتعيين الأمير بندر بن فيصل بن عبد العزيز مساعدًا لرئيس الاستخبارات العامة، وتعيين الأمير عبد العزيز بن تركي بن فيصل بن عبد العزيز نائبا لرئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرياضة، تعيين الأمير خالد بن بندر بن سلطان بن عبد العزيز سفيرا للمملكة لدى ألمانيا، تعيين الأمير عبد العزيز بن فهد بن تركي بن عبد العزيز نائبا لأمير منطقة الجوف.
بعد الإطاحة بابن نايف بدا الطريق ممهدًا أمام الأمير الشاب، غير أنه لم يخل من بعض المنغصات، كان على رأسها الأمير متعب بن عبد العزيز أكبر أبناء الملك الراحل، الذي أخّر “بن سلمان” الإطاحة به لحين استتباب الأمور، إلى أن صدر أمر إعفائه 4 نوفمبر الجاري.
الأمير “متعب بن عبد الله”
بذلك تخلص ولي العهد من العقبة الكبرى في طريقه نحو عرش المملكة، واكتملت سيطرته على قوات الحرس الوطني المسلحة التي تعد ثالث قوات مسلحة ذات قدرات وإمكانات عالية بعد وزارتي الدفاع والداخلية.
لم يكتف “بن سلمان” بذلك، بل اتخذ – في سبيل التخلص من غريمه وغيره من الأمراء والوزراء والمسؤولين السابقين- من مكافحة الفساد شعارًا.
السابقة التي أطاح بها “بن سلمان” في الأوامر الملكية الصادرة أمس السبت 4 نوفمبر الجاري، بأمراء ووزراء ومسؤولين سابقين، لم تتضمن فقط عزلهم من المناصب، بل شملت توقيفهم على ذمة تحقيقات تجريها لجنة شُكلت برئاسته، وهكذا أصبح الرجل خصمًا وحكمًا في آن واحد.
الأمير “الوليد بن طلال”
ومن أبرز الأمراء الذين طالتهم حملة الاعتقالات، رجل الأعمال والملياردير الوليد بن طلال، والذي كشفت تسريبات أنه هدّد خلال اجتماع للأسرة الحاكمة بسحب كل أمواله من داخل المملكة إلى أوروبا في حال رفض الإفراج عن الأمير محمد بن نايف، وأرجعت اعتقاله لهذا السبب.
شائعات الخرف.. و”متعب” الضحية
ثمة مفارقة مثيرة للغاية في اللعبة – إن صحت التسمية – التي حاكها الملك سلمان لنجله من أجل أن يجعل طريقه إلى العرش يسيرًا وقصيرًا، ووقع في آخرها الأمير متعب بن عبد الله ضحية ليس للعبة عمه بل للعبة أبيه الراحل.
“عبد الله” ابتدع منصب “ولي ولي العهد” خصيصًا من أجل المضي قدمًا في سيناريو تمكين نجله، وفي إطار الصراع القائم بينه وبين ولي عهده حينها “سلمان”، لتمرير الملك من أبناء المؤسس إلى أحفاده.
لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وعطل موت الملك عبد الله، خطة إقصاء سلمان، الذي تعمد “متعب” حينها التشكيك عبر أذرعه الإعلامية في قدراته الذهنية وعدم صلاحيته لتولي الملك.
جنازة الملك “عبد الله”
لكن “سلمان” كان أذكى كثيرًا من ابن أخيه، ففي حين اعتمد “متعب” على قوة الحرس الوطني الذي يرأسه وقدرته على بسط السيطرة، لم يعول “سلمان” على قوة وزارة الدفاع التي تقع تحت سيطرته، بل عززها بقوة الأمن الداخلي المتضخم (وزارة الداخلية)، بتعيين “محمد بن نايف” وليًا للعهد، والذي أطيح به لاحقًا في جزء آخر من اللعبة.
الجدل المحتدم حول الحالة الصحية للملك سلمان، وحقيقة إصابته بأمراض دماغية ليس بجديد، لكنه يعود إلى عام 2008 قبل أن يتولى ولاية العهد عام 2012، وبعد أن اعتلى أخوه الراحل “عبد الله” الملك في 2005.
وعلى الرغم من أن تقارير إعلامية تحدثت عن إصابته بمرض أتلف دماغه يسمى “العته الوعائي” أو “الخرف”، إلا أن دوائر قريبة منه قالت إنها مجرد شائعات أطلقها فريق كان يرفض صعود سلمان إلى منصب ولي العهد، بزعامة “متعب” نجل الملك عبد الله، والذي كان طامحًا في الصعود لسلم الحكم، ورئيس الديوان الملكي حينها “خالد التويجري”.
إلا أن الفريق الموالي– حينها – للأمير سلمان، لم يقف مكتوف الأيدي بل عمل على تسريب شائعات مضادة مدعمة بـ مقاطع مصورة، تثبت قدرة عقلية وذهنية فائقة للرجل الذي كان يبلغ من العمر حينها 76 عامًا.
الملك “سلمان”
وبعد التخلص من عقبتي ابن نايف ومتعب، ربما يستغل “بن سلمان” تلك الشائعات ويعيدها إلى الواجهة، من أجل تسهيل وصوله للعرش وإعلان عدم قدرة والده على إدارة شؤون الدولة وبالتالي يسهل عزله أو تنازله عن الحكم لنجله.
هكذا علق المغرد السعودي “العهد الجديد” والذي يصف نفسه بالقريب من دائرة صنع القرار في المملكة، على الفيديو المتداول للقاء الملك سلمان بوزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون في يوليو الماضي.
الملك رد على التحية التي نقلها تيلرسون على لسان الرئيس دونالد ترامب، بتحية ألحقها بعبارة غريبة وجهها عبر المترجم، فقال: “تحياتي له.. وابني خالد معين سفير في أمريكا”.
الملك “سلمان” ووزير الخارجية الأمريكي
وأضاف المغرد أنه “في الفترة الماضية كان ابن سلمان لا يسمح بالظهور الإعلامي لوالده باستمرار، خشية وقوعه في مزالق كلامية قد تحسب لصالح ابن نايف (ولي العهد المعزول) وتكشف وضع الملك الصحي”.
وتابع: “الآن وبعد أن عُزل ابن نايف سيعمل ابن سلمان على تكثيف الظهور الإعلامي لوالده، ليهيئ المجتمع لمرحلة عزله، حيث لم يعد وضعه الصحي يؤهله لإدارة الدولة”.
اضف تعليقا