العدسة_ مترجم_ هادي أحمد
تناول الكاتب المتخصص في الشؤون الدولية والصراعات “فيديريكو بييراتشيني” تحليلًا مطولًا عن الإستراتيجية التي استخدمتها كل من الصين ورسيا؛ لتحويل عدد من دول المنطقة من أعداء إلى أصدقاء، وضرب مثلًا على ذلك بثلاث دول؛ هي السعودية، وتركيا، وسوريا.
وأوضح الكاتب خلال التحليل الذي نشره موقع “جلوبال ريسيرش” الكندي، كيف نجحت التركيبة (العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية) التي تكونت بين “بكين” و”موسكو”، من تدشين نظام عالمي (متعدّد الأقطاب) بديل لنظام الولايات المتحدة (أحادي القطب).
نص التحليل
تناولتُ فى المقالات السابقة، الوسائل العسكرية والاقتصادية التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل فرض هَيْمَنتها على العالم، وفصلت كيف أصبحت واشنطن القوة العظمى، التي تدهورت هذه الآيام.
وفى كلا التحليلين، سلّطت الضوء على تهديد القوة العسكرية الأمريكية الذي لم يَعُد ذا مصداقية حاليًا، وكيف توقفت فاعلية العقوبات وسلوك التسليح القوي، من الشركات العملاقة والهيئات الدولية (صندوق النقد الدولي والنبك الدولي، والبي اي اس BIS .. وغيرها) .
وكيف أن الأمور السابقة جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية، دولةً غير ذات صلة، لتترك فراغًا يجب أن يُملأ من قِبل القوى الناشئة مثل الصين وروسيا، اللذين يؤثران بفاعلية في النظام العالمي الجديد الذي يقوم على تعدد الأقطاب.
وفى الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة، سأغوص في الأحداث المحددة التي تبين كيف أن تركيبة عسكرية واقتصادية ودبلوماسية بين إيران وروسيا والصين- من خلال وسائل معروفة وغير معروفة- قد نجحت فى إقامة نظام عالمي بديل لنظام الولايات المتحدة (أحادي القطب).
وقد استفادت روسيا والصين وإيران بشكل هائل في السنوات الأخيرة، من تراجع القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، مدفوعةً بعدم الثقة بقدرات واشنطن الدبلوماسية والسياسية سواءٌ مع أوباما أو ما يحدث الآن مع ترامب.
وأظهرت المادتان السابقتان أنَّ موسكو وبكين وطهران، رغم اختلاف توجهاتهم ومواقفهم، لكنهم يتبادلون مصالح متشابهة، وينسقون فيما بينهم عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا؛ حيث يستند نجاح الثلاثية الأوروأسيوية، على مبدأ أساسي، يتمثل في تحويل الأعداء إلى لاعبين محايدين، والمحايدين إلى حلفاء، ثم زيادة تحسين العلاقات مع الأمم المتحالفة.
ولكي يتحقق هذا المشروع، فإنّ الجهود الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية لابد أن يتم توظيفها على نحو مختلف، تبعًا للبلد والسياق الاقليمي العام، وقد أتاحت المرونة التي أبدتها موسكو وبكين فى المفاوضات توقيع صفقات تاريخية، ليس فقط فى قطاع الطاقة بل فى المجال العسكري والتعليم والحدّ من الفقر، كما هو الحال في أفريقيا.
وعلى سبيل المثال، فالسعودية وتركيا وسوريا 3 دول، عند تحليلهم بشكل فردي، تكشف عن هذه الإستراتيجية الدقيقة التي تستخدمها كل من روسيا والصين وإيران.
وتعطي الإستراتيجية التي تتبعها موسكو والصين اهتمامًا خاصًا للشرق الأوسط لعدة أسباب، من بينها أنّ المنطقة تُعَدّ من المناطق التي تشهد انخفاضًا للقوة العسكرية الأمريكية، التي أصبحت غير قادرة على تحقيق أهدافها الجيوستراتيجية في سوريا، أنّ المنطقة يتعرض فيها نفوذ واشنطن الاقتصادي للخسارة بشكل تدريجي، ويتضح بشكل متزايد في “البترودولار”، والذي يلقى تحديًا كبيرًا حاليًا من “البترويوان” بين السعودية والصين.
من الأعداء إلى المحايدين
كانت الهزيمة العسكرية للمطالبين بالإطاحة بالرئيس السوري يعود الفضل فيها بالأساس التعاون العسكري الروسي، والجيش السوري وإيران، وحزب الله، بحانب الدعم الدبلوماسي والاقتصادي لبكين.
وبفضل الإستراتيجية التي اعتمدها “بوتين” فى سوريا، تمكنت روسيا من وقف المشروع المتقدم للولايات المتحدة الأمريكية والسعودية وقطر وتركيا وفرنسا وبريطانيا والأردن وإسرائيل لـ”تفكيك” سوريا.
وتدخلت روسيا تدريجيًا فى الصراع، وبعد تدخلها تحولت النتائج العسكرية على الفور، لصالح الجيش السوري وحلفائها إيران وحزب الله، وأصبح الجيش الأمريكي غير قادر على تغيير مسار الأحداث.
وقد دفعت نتائج التدخل الروسي، حلفاء تاريخيين فى المنطقة للشكّ فى التزام واشنطن الحقيقي بالمنطقة، وقدرة أمريكا العسكرية على التدخل فى الصراع في الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا وتحويل مسارها لصالح الرياض والدوحة وأنقرة أو تل أبيب.
كما أظهرت إدارة ترامب نفسها أنها لا ترقى إلى مستوى توقعات الخطط السعودية للهيمنة على المنطقة، رغم أن المملكة وافقت على شراء ما يصل إلى 110 مليارات دولار من الأسلحة الامريكية والالتزام بزيادة الاستثمارات في الولايات المتحدة.
وأصبحت الرياض في موقف أصعب من الذي كانت تتوقعه، وينبغي عليها أن تدعم بشكل فردي البترودولار، الذي يزداد اهتزازًا بفضل الرغبة الصينية في القضاء على أشكال الدفع بالدولار الأمريكي عن طريق التحول إلى بترويوان.
كما أصبحت الرياض ترى القليل من الفوائد الملموسة من دعم الولايات المتحدة لسياستها المعادية لإيران، على الرغم من أنّ ترامب أظهر أفكارًا مختلفة من أوباما بشأن إيران، وتتشاطر السعودية مصالح مشتركة مع إسرائيل في المنطقة فيما يتعلق بغضبهما المشترك بشأن تناقص فاعلية واشنطن في المنطقة.
من وجهة نظر السعودية فقد تراجع كل شيء في فترة قصيرة نسبيًا؛ الهزيمة في سوريا تزامنت مع الاتفاق النووي، والأمران جعلا الرياض تشعر بالخيانة العميقة من قِبَل حليفتها القديمة أمريكا، فضلًا عن الضغوط الاقتصادية التي مارستها الصين على الرياض لقبول مدفوعات النفط.
إلى جانب القدرة المتزايدة لموسكو على التدخل الفعال في المنطقة، والدور الدبلوماسي والسياسي المتجدد لإيران بفضل الاتفاق النووي قد ترك الرياض فى طريق الدمار، وكان الحل الوحيد هو التغيير الاستراتيجي الذي يمكن أن يؤثر على المنقطة بشكل كبير.
وكانت زيارة الملك سلمان لموسكو للتوقيع على اتفاقات تجارية (وصندوق استثماري تجاوزت قيمته المليار دولار) ذات أهمية رمزية، كما عكست الزيارة، اعتراف المملكة بالدور الروسي الجديد المهيمن في الشرق الأوسط نتيجة نوايا أمريكا الراغبة في سحب نفوذها من المنطقة.
كما أنّ ظهور الملك سلمان بنفسه في موسكو، يتعلق بشكل مباشر بخلافة العرش السعودي؛ حيث إن محمد بن سلمان، يتأهب لكي يَرِث مفاتيح المملكة، على الرغم من الكوارث باليمن وأزمة مجلس التعاون الخليجي.
ومع حالة الضعف الشديدة للمملكة، خاصة مع انخفاض أسعار النفط، فإنّ النظام الملكي السعودي لا يملك سوى عدد قليل من الكروت، التي يجب أن يلعبها ويتعين عليه أن يبدأ بالحوار مع موسكو وربما يبدأ نوعًا من التعاون في مختلف المجالات المتعلقة بالطاقة والاستثمار.
في البداية، كان الهدف المعلن لاجتماع موسكو بين بوتين والملك السعودي هو تنسيق إنتاج النفط والغاز، وهو أمر ضروري لكلا البلدين نظرًا لانخفاض أسعار النفط على مدى الـ24 شهرًا الماضية، ويبدو أنّ الهدف الأول الذي حققه بوتين والملك السعودي هو ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات مقبولة، في أعقاب الاستراتيجية الفاشلة لواشنطن والرياض لإفلاس موسكو من خلال هبوط أسعار النفط.
ثانيًا ركّز الاجتماع على قبول هزيمة الرياض في سوريا، والاعتراف بأنّ الأسد هو الرئيس الشرعي لسوريا. وهناك الكثير يتطور خلف الكواليس، ويتضح ذلك مع الرياض التي تعترف الآن بحل سياسي كطريق وحيد لإنهاء الصراع وهو أمر لم يذكره ممثل الدولة السعودية أبدًا.
وكان من الصعب على الرياض، التخلّي عن فكرة تغيير النظام فى سوريا، حتى ولو زاد الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي من الصين وروسيا؛ حيث إن هناك إيمانًا إسرائيليا سعوديا مشتركًا يتضح من محاولتهما تكرار إقناع بوتين بالتخلي عن صداقته مع ايران، والأسد، لكن دون نجاح.
ولاء إيجابي
إنّ الولاء الذي أبدته موسكو لطهران ودمشق، يبدو أنّه أثّر بشكل إيجابي على السعوديين، الذين يجب أن يعترفوا بأنه قد يكون لبوتين وجهات نظر مختلفة بشأن قضايا معينة، لكنه في كل الأحوال يحترم كلمته، خلافًا للولايات المتحدة، التي ألقت الإدارة الجديدة بعض الأصدقاء تحت الحافلة، لكن بوتين يحافظ على وعوده حتى في ظلّ الضغط الشديد.
وبهذا المعنى، فإن قرار ترامب بالتصديق على صفقة إيران تعبير عن حسن النية لإسرائيل والسعودية من قبل الإدارة الجديدة.
وتجد السعودية نفسها ذات احتياطيات نقدية منخفضة؛ نتيجة لانخفاض أسعار النفط وتورطها في العديد من الحروب، إضافة إلى ذلك هزيمة عسكرية في سوريا، وانحدار متزايد في اليمن، لكن الولايات المتحدة حليفتها الأكثر قيمة، لا تهتم على نحو متزايد بمصير النظام الملكي السعودي والمملكة، وذلك بفضل زيادة استقلاليتها بالنسبة للطاقة.
أضف إلى ذلك، انقسام مجلس التعاون الخليجي نتيجة الحرب الاقتصادية ضد قطر، وهو ما يمثل مثالًا آخر على عدم دعم واشنطن للرياض إلى الحدّ الذي لم يكن يتوقعه النظام الملكي في السعودية.
منطق الرياض في هذا الأمر بسيط للغاية وهو إذا لم تتمكن من الحصول على دعم واشنطن عسكريًا، فإنّ الرياض، عليها أن تتحمل العبء اقتصاديًا، فإنّ المملكة في مأزق هائل، وتحتاج إلى بدائل مثل روسيا والصين، ولا يمكن تصوّر استمرار المملكة في دعم هيمنة “البترودولار” في حين تصبح إيران قائدًا إقليميًا في الشرق الأوسط .
وأفضل طريقة لحل تلك الأزمات، هي التفاوض مع اللاعبين الرئيسين، وروسيا تبدو أنها الوسيط المثالي، كما أعلن مؤخرًا، والصين تنتظر فقط كل هذه النزاعات أن تستقر لتتحمل قدرتها الاقتصادية، لكي تنقضي وبشكل نهائي 40 عامًا من الفوضى في المنطقة بسبب التنافس السعودي الإيراني.
وبالنسبة للرياض، حتى لو كانت محاولة فصل روسيا عن إيران سوف تفشل، فإنه مع ذلك جلب العلاقات سوف يرسل إشارة واضحة للغرب، وشراء نظام S-400s دليل واضح على توسيع النفوذ الروسي فى الشرق الأوسط، وربما يكون لدى الرياض خوف من الانتقام الأمريكي حال بدء تغيّر مسار بيع النفط بعملات غير الدولار.
وقد حقّقت موسكو معجزة دبلوماسية مع المملكة بفضل الجهود العسكرية في سوريا والضغط الصيني من خلال إصدار “البترويوان”، والنجاح الدبلوماسي الإيراني منقطع النظير فيما يتعلق بالاتفاقية النووية، والذي ساعد على تأهيل طهران على صعيد المشهد الدبلوماسي الدولي.
إنّ شراء أنظمة تسليح روسية متقدمة يرسل إشارة واضحة، أنّ المملكة مستعدة لاتخاذ موقف أكثر حيادًا، وبدأت في طرق باب العالم متعدد الأقطاب والاعتراف بالقوة الاقتصادية الصينية والهيمنة العسكرية التكنولوجية لروسيا.
اضف تعليقا