تعهدت الحكومة المصرية لصندوق النقد الدولي بالتخلص من دعم المواد البترولية بنهاية يونيو 2019، بحسب البرنامج الاقتصادي المتفق عليه بين الطرفين، والذي حصلت مصر بموجبه على مجموعة من القروض الدولية، لكن مع بداية العام المالي- الذي بدأ في مطلع يوليو الجاري- صار المشهد غامضًا، ففي الوقت الذي ينتظر فيه الناس القرار الحكومي لمعرفة حدود تأثيره المتوقع على زيادة أسعار السلع والمواصلات وغيرها، لم تعلن الحكومة أي شيء، فيما أشارت المصادر التي تحدث إليها «مدى مصر» إلى احتمالات حدوث تغيير في الخطط المعلنة من قبل بهذا الخصوص.
فبينما يؤكد ياسر عمر، وكيل لجنة الخطة والموازنة في البرلمان، أن الحكومة أبلغت المجلس بنيتها رفع أسعار المواد البترولية، كما يتضح من موازنة العام الجديد التي تتضمن تخفيض دعم المواد البترولية من 89 مليار جنيه العام الماضي إلى 53 مليار جنيه العام الجاري، إلا أنه يقول لـ «مدى مصر» إن «هذا لا يعني تطبيق آلية التسعير التلقائي للمواد البترولية، والذي ينطوي على رفع الدعم بالكامل. هذه الآلية من المستبعد تطبيقها بالكامل خلال العام المالي الجديد، كما أن تطبيقها لن يشمل غالبًا في البداية إلا بنزين 92».
وكانت الحكومة، في إطار خطتها لتقليص دعم الطاقة، أعلنت في نهاية العام الماضي عن بدء تطبيق آلية التسعير التلقائي للمواد البترولية على «بنزين 95»، في خطوة اعتبرها المحللون الذين تحدث إليهم «مدى مصر» وقتها «اختبارًا للآلية» قبل تعميمها على بقية أنواع الوقود، والذي قال وزير البترول إنه سيتم في يونيو، على أن ينعكس فعليًا على أسعار الوقود في سبتمبر المقبل.
وأثنى صندوق النقد الدولي على تلك الخطوة قائلًا إن السلطات المصرية أخبرته مسبقًا بعزمها «تطبيق التسعير التلقائي على معظم منتجات الوقود في إطار استكمال اصلاحاتها في قطاع الطاقة، وسيعود إلى السلطات تحديد موعد التنفيذ».
لكن القرار تم مع وقف التنفيذ إلى حد كبير، حيث قررت الحكومة تثبيت سعر هذا النوع من البنزين لمدة ثلاثة أشهر حتى شهر أبريل 2019، ثم بحلول أبريل أتخذت اللجنة المختصة بمراجعة الأسعار قرارًا بتثبيته حتى نهاية يونيو، عند نفس السعر (7.75 جنيه).
وبموجب القرار تتم مراجعة السعر كل ثلاثة أشهر، وإعلان السعر الجديد، على ألا تتجاوز نسبة التغيير في سعر البيع للمستهلك الـ 10% ارتفاعًا أو انخفاضًا، من سعر البيع السائد وقتها. وبالتالي تفترض هذه الآلية للمراجعة إعلان السعر الجديد لـ «بنزين 95» مع نهاية يونيو، كما تفترض الالتزامات الحكومية المعلنة سلفًا تطبيق الآلية على بقية أنواع الوقود مع بداية العام المالي الجديد.
لكن سارة عيد، المتحدث الرسمي باسم قطاع الموازنة العامة في وزارة المالية، قالت لـ «مدى مصر» إن الحكومة لم تعلن إلى الآن أي موعد لتطبيق آلية التسعير التلقائي للمواد البترولية، مؤكدة أنها لا يمكنها الحديث عن موعد متوقع، «لكن في كل الأحوال يحتمل أن تحقق الموازنة الجديدة فائضًا (بصرف النظر عن تطبيق الآلية) بسبب انخفاض سعر برميل البترول في السوق العالمي عن توقعات الموازنة، فالسعر يبلغ حاليًا 65 دولارًا، مقابل سعر 68 دولارًا لبرميل البترول استندت إليه موازنة عام 2020/2019» حسبما أضافت.
وفي ظل الغموض حول القرار الحكومي المرتقب تثور التساؤلات حول الأثر المتوقع لهذا القرار على أسعار السلع والخدمات، وهو العنصر الأكثر أهمية بالنسبة للمواطنين لتأثيره المباشر على مستويات معيشتهم.
وتوقعت شركة شعاع للأوراق المالية، في مذكرة لعملائها، ارتفاع معدل التضخم في أسعار المستهلكين إلى مستوى يقارب 16% مع تطبيق إجراءات الإصلاح المالي، والتي تتضمن رفع أسعار المواد البترولية والكهرباء، مع بدء السنة المالية الجديدة 2020/2019 مطلع يوليو الجاري، مقابل 13.2% سجلها مؤشر التضخم في مايو الماضي.
ولا يعكس هذا المعدل المتوقع حقيقة ارتفاع الأسعار وتأثيره على الناس، فزيادة أسعار الوقود تحديدًا سرعان ما تنعكس على أكثر بنود الإنفاق تأثيًرا على مستويات المعيشة وهي السلع الغذائية والنقل والمواصلات، «إذ يرتبط ارتفاع سعر السولار بالذات برفع تكلفة استخدام الجرارات مثلًا وغيرها من الآلات الزراعية، بالإضافة لتكلفة نقل المنتجات الزراعية، كما يؤثر على وسائل المواصلات والنقل البري، فيما يرتبط رفع سعر البنزين كذلك بشكل مباشر بالنقل البري» حسبما أوضحت عالية المهدي، العميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
وفضلًا عن تلك البنود ثمة تأثير إضافي على أسعار المطاعم كبند من بنود الإنفاق وهو ما يتضح من متابعة مجريات ارتفاع الأسعار في أعقاب الزيادات السابقة في أسعار الوقود، تبعا لبيانات تحليل التضخم الصادرة عن البنك المركزي. وترجع أهمية هذا البند إلى أنه يشمل المطاعم الشعبية التي تقدم الفول والطعمية والكشري وغيرها من الوجبات التي يعتمد عليها قطاع واسع من المستهلكين.
وبالرغم من تأثير رفع أسعار الوقود على مستويات المعيشة، فمن المتوقع أن يصدر مؤشر التضخم ليحمل معدلًا «أخف وطأة» من الأثر الفعلي، لأن طريقة حساب مؤشر التضخم تتضمن عوامل فنية لا تركز على الأثر المباشر على معيشة المستهلكين، بقدر ما تقارن معدل الزيادة في العام الحالي بنظيره في نفس الفترة من العام السابق.
و«في كل الأحوال لن تعكس معدلات التضخم التأثير المتباين لارتفاع أسعار الوقود على مختلف الشرائح الاجتماعية» حسبما تقول المهدي مضيفة أن «نسب الإنفاق على البنود المختلفة إلى إجمالي الدخل تتباين تبعًا للشرائح الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص.. والثابت أن الشرائح الأفقر تنفق نسبة أكبر من دخلها على السلع الغذائية مثلًا وهو ما يجعلها أكثر تأثرًا بوضوح من ارتفاع أسعار الوقود من غيرها من الشرائح الأعلى.. ومعدلات التضخم لا تقيس هذا التباين في التأثير وهو ما يجعلها لا تكشف حقيقة تأثير الأسعار على الناس».
ويتضح من قراءة بيانات التضخم المتزامنة مع قرارات رفع أسعار المواد البترولية في السنوات الخمس الأخيرة أن معدلات التضخم تتأثر بشكل متفاوت بهذه القرارات، نتيجة لطريقة حساب المؤشر من جهة، وما يتزامن مع زيادات الوقود من إجراءات اقتصادية أخرى ذات أثر تضخمي، كما يظهر من الشكل التالي:
فقد سجل معدل التضخم السنوي مثلا 13.8% في شهر يونيو من العام الماضي، الذي شهد ظهور التأثيرات التضخمية لقرار رفع أسعار المواد البترولية، لكن هذه النسبة لم تعكس ما شعر به المواطن من زيادات في الأسعار بقدر ما عكست انخفاض معدل الزيادة مقارنة بالنسبة المرتفعة للتضخم في الفترة المناظرة من عام 2017، الذي شهد معدلًا مرتفعًا بلغ 29.7%، نتيجة للأثر المتراكم لتعويم الجنيه وتطبيق ضريبة القيمة المضافة التي تمت قبل ذلك بشهور، ورفعت معدل زيادة الأسعار لمستويات قياسية.
وبينما تظهر معدلات التضخم السنوية معدلات زيادة تتراوح بين 11 و33% خلال السنوات الخمس الماضية التي شهدت تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، بكل ما تضمنه من إجراءات تقشفية شملت تمرير قانون القيمة المضافة وتحرير سعر الجنيه ورفع أسعار المياه والكهرباء، فإن الزيادات المتراكمة التي يشعر المواطن بتأثيرها تفوق نسبتها 100%، بقياس الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين خلال الفترة من يوليو 2014 إلى مايو الماضي، ﻷن الأثر الفعلي للتضخم على المستهلك هو محصلة الزيادات المتتالية التي شهدتها الأسعار على قدرته على شراء السلع والحصول على الخدمات، وهي القدرة التي ستتلقى مزيدًا من الصدمات مع اتخاذ القرار بتحرير أسعار الوقود.
اضف تعليقا