(500 مليون$ لإعادة إعمار غزة)

 

في صياغة خبرية كان من الممكن أن يعدّها الكثيرون مزحةً قبل أن، يعلن، اليوم الثلاثاء، أن قائد الانقلاب العسكري في مصر، عبد الفتاح السيسي، سيقدم “مبلغ 500 مليون دولار كمبادرة مصرية تخصص لصالح عملية إعادة الإعمار في قطاع غزة نتيجة الأحداث الأخيرة، مع شرط قيام الشركات المصرية المتخصصة بالاشتراك في تنفيذ عملية إعادة الإعمار”.

لم يصدق الكثيرون الخبرَ إلا بعد أن تأكدوا أن من نشره هي الصفحة الموثقة للمتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية.

 

وهنا تبادرت للأذهان عدد من الأسئلة؛ فالنظام الذي يتسول القروضَ من أجل بناء الطرق  والكباري أو إصلاح سكك الحديد المصرية المهترئة، أنّى له أن يتَحصَّل على هذا المبلغ من أجل إعادة إعمار غزة؟ السيسي ذاته علَّل رفضه تطوير السكك الحديد بحجة أنه لو يملك 10 مليار جنيه لميكنة السكك الحديدية فإنه يفضل وضعَها في البنك وجني الفائدة مليار أو مليارين من ورائها، فكيف لهذه العقلية أن تعرض تقديم مثل هذا المبلغ لإعادة إعمار غزة؟

وإذا كان الحالُ كذلك بالنسبة للداخل المصري، فلا شك أن وراء هذا التصرف دوافعُ خفية من المهم إدراكها والتفطن لها، بغية معرفة ما يريده السيسي من هذا التصرف غير المسبوق وغير المتوقع.

ولفهم هذا التصرف من المهم النظر في أمرين؛ طبيعة موقف النظام الانقلابي الحالي تجاه الأحداث في غزة ودوافع هذا الموقف، وكذلك مَن سيرسل السيسي لإنفاذ المهمة داخل غزة.

 

 

  • طبيعة الموقف المصري تجاه الأحداث

 

لا شك أن المتابع للأحداث الحالية يدرك أن النظام الانقلابي قد اتخذ موقفًا مغايرًا نسبيًا لموقفه وقت العدوان على غزة عام 2014، وكذلك مغايرًا لموقف الدول المطبعة حديثًا مع الكيان الصهيوني، وعلى رأسها الإمارات.

فالنظام المصري سمح بتحركات دبلوماسية تبدو أقرب للموقف الفلسطيني منه إلى الموقف الإسرائيلي. وقد بدا ذلك في بيانات وتحركات وتصريحات وزير الخارجية المصري، سامح شكري.

كما أبرز الإعلام المصري المقرب من الأجهزة الأمنية خطابًا أقرب للمقاومة الفلسطينية ومعاديًا كل المعاداة للصهاينة ولاعتداءاتهم ضد الفلسطينيين.

لكن السلطات المصرية في ذات الوقت لم تتخذ خطوات فعلية على أرض الواقع لدعم الفلسطينيين، أو حتى التخفيف عنهم على الأقل، فلم تُفتح المعابر لعلاج المصابين ونقل الأغذية والأدوية، ولا يزال الحصارُ قائمًا على المقاومة الفلسطينية داخل قطاع غزة.

واقتصرت الجهود الفعلية المصرية على السعي لإجراء اتصالات وتواصلات بغية لعب دور الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين للوصول إلى اتفاق هدنة لوقف إطلاق النار.

هذه التصرفات المصرية فسرها مراقبون بأنها محاولة من النظام لإثبات مكانته واستعادة شيء من دوره المفقود جراء التطبيع الإماراتي مع الكيان المحتل، حيث يشعر النظامُ أن الإمارات تزاحمه في الدور الذي كان يحتكره منذ عقود ويعطي له مكانة وأهمية على المستوى الإقليمي والدولي، وهو الوساطة بين إسرائيل من جهة، والفلسطينيين بمختلف أطيافهم من جهة ثانية، والعرب عمومًا من جهة ثالثة. ولكن وجود الإمارات ومسارعتها إلى مستوى غير مسبوق من التطبيع، هدد هذه المكانة، وبالتالي يحاول النظام من خلال التحركات الحالية إثبات أنه الأكثر قدرة وكفاءة على ممارسة هذا الدور، وبالتالي عدم إمكانية استبداله بكائن من كان، وكذلك عدم التفريط فيه بسهولة.

وبالتالي، السياسة المصرية في الأحداث الأخيرة تهدف لإثبات فعاليتها وكفاءتها واستعادة جزء من دورها المسلوب لصالح قوى إقليمية أخرى.

وفي إطار هذه السياسة، من الممكن كذلك فهم دوافع القرار المصري بالتبرع لإعادة الإعمار بمبلغ 500 مليون دولار.السيسي لا يريد الإعمار، السيسي يريد ما وراء الإعمار.

 

  • السيسي سيرسل العسكر

 

بالنظر إلى الشركات التي ادعى الخبر المنشور أنها ستشترك في تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، بقليل من المتابعة، سندرك أن السيسي لا يتعامل على الإطلاق مع شركات في الداخل المصري، وأن السيسي لا يسند مشاريعه إلا لدولة العسكر والضباط، وتحديدًا الهيئة الهندسية في القوات المسلحة المصرية. وهنا -على وجه التحديد- مكمن الخطورة.

السيسي لن يرسل شركات مصرية مدنية، وإنما سيرسل ضباطًا وعساكر.

وحين الدخول إلى غزة والانتشار فيها والمشاركة في أعمال الحفر والبناء، سيكون بلا شك هدف العسكر الذين أرسلهم السيسي هو جمع المعلومات عن المقاومة الفلسطينية وطبيعة البنية التحتية في القطاع وغير ذلك.

وعلى وجه التحديد، ستكون أعمال الحفر والبناء من العوامل التي سيحاول من خلالها العساكر رسم خريطة تصورية وجمع معلومات عن شبكة الأنفاق والمخازن التي تستخدمها فصائل المقاومة لإدارة العمليات العسكرية وتخزين السلاح والمؤونة وحماية القيادة والجند.

ففي إطار محاولة السيسي لإثبات المكانة والدور، ستكون المعلومات التي سيجمعها السيسي ورقة ضغط سيستخدمها بالتوازي مع فصائل المقاومة في غزة، ومع الصهاينة كذلك.

فالاحتلال يسعى بكل ما أوتي من قوة لمعرفة خريطة شبكات الأنفاق التي يستخدمها المقاومون، وطبيعة الأهداف التي يستهدفها في القطاع خلال الأيام الماضية تشي بمحاولاته الدؤوبة لاستكشاف شبكة الأنفاق السرية، لكنه لم يستطع حتى هذه اللحظة الظفر بمثل هذه المعلومات. ولا يتوقع أن يصل إليها بأي شكل إلا من الداخل. وقد يكون هذا دور السيسي على وجه التحديد.

أسئلة أخرى يطرحها البعض عن كون هذه التحركات التي تهدف لاختراق غزة أمنيا، فهل تلك الإجراءات تتعلق برغبة منفردة من نظام السيسي للقيام بذلك، أم أنه يقوم بهذا لصالح أطراف أخرى هي التي أعطته وتعطيه هذه الأموال للقيام بمثل تلك الأدوار المشبوهة!