غالبًا ما يفقد الكثيرون السيطرة على ثباتهم الانفعالي عند تعرضهم لمشكلةٍ ما، كما قد يحدث أن تتأثر بمشاعر الحزن والألم إذا قرأت رواية بها قدر من وصف الأحداث المحزنة، وتتألم لألمها، حيث إنك لا إراديًّا تضع نفسك مكان البطل الذي قد يتعرض لألوان القهر والظلم.
وربما يعود هذا الشعور بسيطرة الحزن رغم إدراكك لمجرد أنها رواية؛ لأنك تعي أن كل الأعمال الروائية قد تأثرت بأحداث حقيقية وقعت بالفعل، حتى إن إحدى الكاتبات قد عبرت عن محاكاتها للواقع فيما تكتبه من روايات، بوصفها أنها إذا أرادت أن تصف حديقة من خلال خيالها الخاص، فإنها سوف تضع بها بعض الأمور الواقعية كأن تصف فيها مثلا قفزات الضفادع.
ولهذا فنحن نتخيل أنفسنا في مكان البطل، ونرثى لحاله، وليس هذا على مستوى الروايات فقط، ولكننا كذلك نتعاطف مع أي شخص يتعرض لنوع من أنواع الأذى أمامنا، حيث تنشط المناطق المرتبطة بالألم في المخ.
وقد يترتب على ذلك، أن تسيطر عليك حالة من الحزن، وتترك آثارًا سلبية لدى تعاملك مع الآخرين وأنت داخل هذه الحالة النفسية السيئة.
فقد أوضحت إحدى الدراسات التي أجريت عام 2017، أن الحالة المزاجية غير المنضبطة قد تنتقل حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك فإن حالتنا النفسية وانفعالاتنا تؤثر على أسلوب التفاعل مع الآخرين، الذي ينتج عن نشاط المخ، فعندما ترى شخصًا ما يتألم، فإن تأثرك به وما تصاب به من مشاعر حزن لأجله يكون له تبعات على المحيطين بك كذلك، كما أن حالتنا النفسية تؤثر على درجة التفاعل مع الآخرين فيما يمرون به من أحداث مؤلمة، ومدى تعاطفنا معهم.
ولا يتوقف الأمر عند حدود ردود أفعالنا تجاه الآخرين، ولكن قد يمتد الأمر إلى جميع سلوكياتنا بطرق متعددة، من أصغر الاحتمالات، كاختيار أطعمة بعينها – فقد نتوجه إلى اختيار الأطعمة غير الصحية ونحن في حالة نفسية سيئة- وحتى أسلوب تعاملنا مع المقربين.
كذلك إذا شعرنا بأن أحد المقربين لدينا يحمل همًّا ما، فقد ينتقل إلينا نفس الشعور، ونجد أنفسنا مهمومين لأجله.
ولا يقتصر الأمر على حدود تأثير المشاعر السلبية؛ فإن كل الانفعالات لها تأثيرات على نفسيتنا، وحتى شعورنا بالسعادة والرضا فإنه قد يقلل كثيرا من الشعور بالألم إذا تعرضنا للإصابة بجرح، فقد يكون لها نفس تأثير المسكنات، في حين أنه إذا تعرضنا لنفس الإصابة ولكن في وقت آخر قد اختلفت فيه مشاعرنا سلبا، فإن شعورنا بالألم سيكون مضاعفا.
كما قد أظهرت دراسة أخرى نشرت أيضًا بالعام 2017، قد أجرتها إيملي كياوتاسيريت، من جامعة جنيف، وفريقها، أن تملك المشاعر السلبية منا، سواء كانت حزنًا أو اكتئابًا، فإن ذلك يؤثر على مقدرتنا في التعاطف مع آلام الآخرين.
وقد أجرى فريق الدراسة بعض التجارب على عينة البحث، كوضعهم جهازًا في ساق المشاركين، تزيد درجة حرارته حتى تصل إلى مرحلة الشعور بالألم، إضافة إلى عرض بعض مقاطع الفيديو الإيجابية والسلبية أيضًا على المشاركين في البحث، على أن يتم تعريضهم لأجهزة مسح خاصة لفحص التغيرات، ثم تعريضهم لجهاز ازدياد الحرارة، وبعد ذلك يتم عرض صور لأشخاص يتألمون.
وكان الهدف من ذلك البحث، هو الإجابة على هذا السؤال، هل سيتفاعل المشاركون مع أشخاص يتعرضون أمامه للأذى من أشخاص آخرين؟.
وكشفت النتائج عن أن المناطق الخاصة بالألم البدني في المخ، وهي القشرة الانعزالية الأمامية والقشرة الحزامية الوسطى في المخ، لم تكن بنفس النشاط لدى عينة البحث من المشاركين الذين أُطلِعوا على مقاطع فيديو سلبية قبل أن يعرض عليهم صور لأشخاص يتألمون.
وهذه المنطقة بالمخ تنشط عندما نشاهد أشخاصًا يتعرضون للأذى أمامنا أو عندما نتألم نحن، وتقول مشرفة البحث أن هذه النتيجة تعنى أن مشاعر الحزن والتألم تحجب عن المخ التفاعل مع آلام الآخرين، ما يعنى أن المشاعر التي تسيطر علينا في وقتٍ ما، قد تغير من نشاط الدوائر العصبية في المخ وبالتالي، فإن انفعالاتنا الداخلية تؤثر على إحساسنا ونظرتنا للآخرين.
كما توصلت أيضًا “كياوتاسيريت” وزملاؤها في دراسة أخرى حول نفس الموضوع، إلى أن مشاهدة مقاطع فيديو تراجيدية قد تجعل من شاهدوها يفسرون تعبيرات الوجوه المحايدة للآخرين على أنها تعبيرات سلبية.
وبالتأكيد، فإن هذه النتائج تنسحب على حياتنا اليومية، خاصة عندما يتعلق الأمر بمن يتولون أمورًا خاصة بنا، وقد يفقدون بتلك الحالة القدرة على الشد من أزرنا والتعاطف معنا، كأن يكون مثلا رئيس العمل قد شاهد فيلما تراجيديا أو قد تعرض لموقف مؤلم فحينها سينعدم التعاطف مع مرءوسيه في العمل، وربما يصل الأمر إلى التعامل معهم من منطلق سلبي.
وتترتب على هذه الحالة من عدم التفاعل مع آلام الآخرين والشعور بالتعاطف تجاههم، الكثير من المواقف التي تتحكم في أدائنا في الحياة عموما، فقد أكدت نتائج الأبحاث أن التجاهل لمعاناة الآخرين يؤثر على ردود أفعالنا مثل عدم الإقبال على التبرع للجمعيات الخيرية مثلا.
وهو ما أكدته كذلك نتائج قراءات مسح المخ أثناء التجارب، حيث أظهرت أن التعاطف تجاه الآخرين من خارج نفس الدوائر الاجتماعية يكون أقل كثيرا.
وتفسر أولجا كليمكي،من جامعة جنيف، هذا الإحجام عن التعاطف الوجداني مع الآخرين عند التعرض لمشاعر سلبية، بأنه قد يعود إلى نوع من التعاطف، يطلق عليه “التعاطف المفرط مع الآخرين”؛ بمعنى أن الشعور بعدم تحمل المزيد من المشاعر السلبية إذا واجه الآخرون مكروه هو الذي يتحكم في عدم إطلاق مشاعر التعاطف تجاههم ولهذا فلا ينبغي الاستسلام لمثل هذه المشاعر.
ومن زاوية أخرى على المستوى العلمي، فإن حالة الإحساس المفرط بالتعاطف مع الآخرين تنشط في أماكن محددة في المخ تختلف عن تلك الأماكن التي تنشط في حالة التعاطف العادي، وقد يقلل التعرض لمشاعر سلبية من ذلك الإحساس بالشفقة التي يتوقعها منا الآخرون.
إلا أن هناك عاملًا آخر يتدخل في هذا الإحجام عن بذل المزيد من مشاعر المؤازرة تجاه الآخرين، وهى أن تعرضنا لمشكلٍ ما، أو الدخول في حالة نفسية سيئة، يجعلنا ننشغل بأنفسنا وفي التفكير في مشاكلنا، دون الاهتمام بمشاكل الآخرين.
كما قد تبين أيضًا، أن فرط مشاعر التعاطف يزيد من السلوكيات العدائية -حسب الدراسة التي قامت بها “كليمكي” وزملاؤها في عام 2016- حيث قامت في تجربة بحثية بعرض مشاهد فيها ظلم وجور على المشاركين بالبحث، وبعدها أتيح لهم فرصة الانتقام ممن وقع منهم الظلم أو العفو عنهم، واكتشفت أن هؤلاء الذين لم يتعمدوا إهانة من شهدوا مواقف ظلم وجور هم هؤلاء الذين تمتعوا بمشاعر التعاطف الفطرية أكثر من غيرهم، بعد أن اختبروا جميعا لاكتشاف الطباع الشخصية قبل دخولهم إلى التجربة.
وأوضحت “كليمكي” -من خلال أبحاثها- أنه يمكن التشجيع على تنمية تلك المشاعر الوجدانية، كما قد ترتفع نسب الشعور بالشفقة والرحمة بالتدريب، ما يعنى أن هذه المشاعر والانفعالات ليست ثابتة، فقد تتغير باختلاف الزمن.
وهذا قد يعني أننا بإمكاننا أن نعاود التعاطف مع الآخرين مرة أخرى إذا كانوا يعانون من أزمات شديدة، كما أن تحسين طرق تفكيرنا والخروج من دائرة السلبية يساعد المرء نفسه في السيطرة على توسيع نطاق الوعي بما يمكنه من احتواء الآخرين والالتفات إلى احتياجاتهم.
وعلينا الانتباه إلى أن توطيد علاقتنا بالآخرين هو من أهم العوامل التي تكفل لنا السعادة، فلا تترك نفسك للمشاعر السلبية تستبد بك، حتى لا يترك هذا أثرًا على هؤلاء الذين تتعامل معهم بشكل يومي.
اضف تعليقا