العدسة – أحمد فارس

 تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى فضّ الاشتباك مع تركيا خلال الفترة المقبلة، أو هذا ما يمكن فهمه من خلال محاولات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لاستمالة أنقرة.

وشهدت العلاقة بين أمريكا وتركيا حالةً من التوتر الشديد، وتحديدًا خلال العام الماضي، أسفرت عن انحياز أنقرة إلى صف روسيا، خاصة مع انقلاب واشنطن عن تركيا، وخاصة في التعاطي مع الملف العراقي والسوري.

وترى تركيا أن أمريكا تنحاز لخصومها وهم الأكراد، الذين تعتبرهم أنقرة “جماعات إرهابية”، باعتبارهم تهديدًا للأمن القومي التركي، فهل ينزع هذا اللقاء المرتقب فتيل الأزمة؟

 

  لقاء مرتقب

وتقرر عقد اجتماع مشترك بين وزيري خارجية أمريكا وتركيا في واشنطن، مطلع الشهر المقبل، في إطار العلاقات الثنائية بين البلدين، باعتبارهما دولتين عضوتين في حلف شمال الأطلسي.

وقال وزير خارجية أمريكا مايك بومبيو، إنّه من المقرر لقاء نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو، خلال الفترة المقبلة، دون أن يحدد التوقيت المقترح لهذا اللقاء.

ولكن بحسب ما نشرته وكالة “رويترز” الإخبارية، نقلًا عن مصادر في الخارجية التركي، فإنَّ اللقاء سيكون في 4 يونيو المقبل.

ولكن هذا اللقاء ليس الأول من نوعه بين وزيري خارجية أمريكا وتركيا؛ إذ التقيا خلال اليومين الماضيين، على هامش اجتماعات وزراء خارجية الدول الأعضاء في حلف الناتو ببروكسل.

وتطرق اللقاء إلى عدد من القضايا الخلافية بين البلدين خلال الفترة الماضية، وتحديدًا تلك التي تؤثر على مسيرة حلف “الناتو” باعتبار أنَّ تركيا عضو فيه، خاصة مع التقارب الكبير مع روسيا مؤخرًا.

ولكن هل ينزع اللقاء المرتقب فتيل الأزمة بين الدولتين، في ظلّ لقاء سابق عقده وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون في أنقرة مع المسئولين هناك، أواخر فبراير الماضي، قبل رحيله عن وزارة الخارجية، وتعيين بومبيو.

ويبدو أنَّ أمريكا تعتزم محاولة إنهاء الأزمة مع تركيا، وتقديم تنازلات في مواقفها، لضمان عدم حدوث تقارب على مستويات أبعد في علاقات أنقرة مع موسكو، خلال الفترة المقبلة.

وتلقت أمريكا ضربات قوية في سوريا، خاصة بعد التدخل الروسي في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وعدم وجود استراتيجية أمريكية واضحة للتعامل مع الأزمة السورية، في ظل مبادرة روسيا بالتدخل العسكري لصالح نظام بشار الأسد، وتقوية التواجد العسكري هناك، في ضربة وجهتها روسيا لأمريكا.

التطور الكبير في التغلغل الروسي في المنطقة بدا واضحًا، على أكثر من مستوى ليس فقط في سوريا، وإن كانت هي البوابة الرئيسية؛ إذ ظهر هذا التواجد أيضًا في ليبيا والسودان، عبر استضافة خليفة حفتر قائد القوات التابعة لمعسكر شرق ليبيا، وطلب الأخير أسلحة منها، فضلًا عن ترتيب لقاءات مشتركة مع فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق؛ المعترف بها دوليًا.

 

تجاذبات كبيرة

ثمة قضايا هامة ومُلِحّة ينتظر طرحها خلال لقاء الوزيرين في واشنطن خلال الشهر المقبل، وهي في الأساس كانت قضايا محل تجاذبات كبيرة بين الطرفين خلال الأشهر الماضية.

وترغب أمريكا في استعادة العلاقات القوية مع تركيا، في حين ترغب الأخيرة هي الأخرى في اتخاذ واشنطن مواقف لا تتعارض مع توجهاتها، للحفاظ على العلاقات الاستراتيجية بينهما، وتحديدًا فيما يتعلق بترتيب الأوراق في المنطقة.

ويمكن رصد أبرز النقاط الخلافية كالتالي:

 

أولًا: دعم الأكراد:

راهنت الولايات المتحدة الأمريكة بشكل أساسي على الأكراد في العراق وسوريا، وقدمت دعمًا لهم، باعتبارهم ذراعها في الدولتين، لتحقيق أهدافها، وكانت واشنطن ترى ضرورة الرهان على طرف على الأرض لمواجهة تنظيم “داعش”، خاصة وأن الضربات الجوية لن تقضي على التنظيم تمامًا، وفي الوقت ذاته لا ترغب في الدفع بقواتها على الأرض، خوفًا من خسائر بشرية، كتلك التي تعرضت لها في أفغانستان والعراق فيما مضى.

في النهاية وقع اختيار واشنطن على الأكراد للعب هذا الدور، وبالفعل كانوا طرفًا فاعلًا في مواجهة تنظيم “داعش”، ولكن ما المقابل الذي تُقدِّمه أمريكا لهم، إلا دعم قضيتهم في الحكم الذاتي سواء في العراق وسوريا.

تركيا رفضت بشدة استفتاء انفصال كردستان عن العراق، وبالفعل حركت قواتها على الحدود مع العراق، واتّخذت عددًا من الإجراءات تتعلق بمنع تصدير بترول الإقليم، وتوعدت بردّ حاسم إذا لم يتم التراجع عن الاستفتاء، في موقف تماشى مع الحكومة العراقية.

وأقدمت تركيا التي تعتبر الأكراد في العراق وسوريا منظمات إرهابية، على الدخول إلى سوريا، لمواجهة النفوذ الكردي عبر حدودها، بالتنسيق مع بعض الفصائل المسلحة في الشمال السوري، والتفاهمات مع روسيا وإيران، حول مناطق خفض التوتر كأحد مخرجات مؤتمر أستانا حول سوريا.

وبدأت تركيا في توجيه ضربات للأكراد في سوريا، وتراجعت فكرة استقلال إقليم كردستان، فلم يعد أمام أمريكا إلا اتخاذ خطوة للوراء، إذ إن تركيا لن تتراجع عن ضرب الأكراد بقوة وعنف شديدين، وفي النهاية يمكن أن تخسر واشنطن الطرفين تمامًا.

وقبل أيام، أعلنت الولايات المتحدة وتركيا، أنهما اتفقتا على “خريطة طريق” للتعاون من أجل ضمان الأمن والاستقرار في منبج، المدينة الواقعة في شمال سوريا والخاضعة لسيطرة الأكراد، والتي أصبحت مصدر خلاف بين العضوين في حلف شمال الأطلسي.

وقالت وزارة الخارجية التركية والسفارة الأمريكية في أنقرة في بيان مشترك: إن “الطرفين حدّدا الخطوط العريضة لخريطة طريق لتعاونهما من أجل ضمان الأمن والاستقرار في منبج”.

وهنا فإنّ أمريكا ربما قدمت تنازلات فيما يتعلق بتحقيق حلم الأكراد ودعمهم لإقامة حكم ذاتي وتحقيق حلم بإقامة دولتهم المستقلة.

 

ثانيًا: سياسة سوريا:

أحد النقاط الخلافية بين أمريكا وتركيا خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا منذ عهد باراك أوباما، عدم وجود استراتيجية محددة لأمريكا في سوريا، في ظل الانتهاكات والقتل من قوات بشار النظامية للمدنيين، والفصائل المعارضة.

وهنا فإنّ التراجع الأمريكي الكبير في حسم ملف سوريا سريعًا، دفع روسيا إلى الطمع في تلك المنطقة، وتركيز جهودها العسكرية لصالح نظام بشار، ما ساعده على البقاء كل هذه المدة، بل وتراجع الفصائل المعارضة.

وفي أكثر من مناسبة، يؤكد المسؤولون الأتراك أن استمرار الأسد في الحكم أمر لا يمكن تقبله، وعلى رأسهم أردوغان.

 

ثالثا: التقارب مع روسيا:

عدم وجود استراتيجة أمريكية حول سوريا، ربما كان دافعًا لتعامل تركيا مع روسيا فيما يتعلق بتلك الأزمة؛ فكانت أنقرة شريكًا في مؤتمرات أستانا، باعتبارها طرفًا فاعلًا في الأزمة.

ومع عدم وجود أفق لحل الأزمة، التي تكتوي تركيا بنارها، من خلال استقبال أعداد كبيرة للغاية من اللاجئين، فإنَّ التعامل مع روسيا بات أمرًا ملحًا.

وبالتأكيد ترغب أمريكا في إنهاء هذا التقارب، خاصة مع وجود رغبة في تحجيم الدور الروسي في المنطقة، خاصة بعد نجاح روسيا في تحقيق تفاهمات مع حلفاء واشنطن في المنطقة، وبالإضافة لتركيا كانت السعودية حاضرة، من خلال التنازل عن فكرة استبعاد الأسد من الحكم، والموافقة على استمراره مقابل تفاهمات تتعلق بطرد الميليشيات الإيرانية مع سوريا.

رابعًا: التقارب مع إيران:

وتحاول أمريكا إثناء تركيا عن التقارب مع إيران خلال الفترة المقبلة؛ إذ يعتمد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، على ممارسة ضغوط على طهران، ليس في مجال عدم السعي لامتلاك أسلحة نووية، ولكن على مستوى وقف تمدُّد أنشطتها وعدم وتمويل جماعات بعنيها في المنطقة.

وبالتالي فإنَّ عدم إحكام أمريكا حصار إيران، يهدِّد هذا المخطط، خاصة وأن تقارب تركيا مع إيران بات نتيجة حتمية بعد تقارب الأولى مع روسيا، والتوافق حول التعامل مع الملف السوري.

خامسًا: الأسلحة الروسية:

وترغب أمريكا في وقف صفقة شراء تركيا لأسلحة روسية، وتحديدًا منظمة صواريخ إس 400؛ إذ حذر وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو، من جدية المخاوف الأمريكية خلال اجتماع مع نظيره التركى فى بروكسل بشأن قرار أنقرة شراء بطاريات صواريخ أرض-جو روسية من طراز إس-400 التى لا تتوافق مع دفاعات حلف شمال الأطلسي.

وتفكر تركيا أيضًا في شراء طائرات سو 57 الروسية، خلال الفترة المقبلة، خاصة مع رفض أمريكا لتسليم طائرات إف 35 إلى أنقرة، وعدم حصول أي دولة على هذا النوع من الطائرات المتقدمة في المنطقة، سوى إسرائيل فقط.

وترفض إسرائيل وتمارس ضغوطًا على صناع القرار في أمريكا، لعدم تسليم هذا النوع من الطائرات لأي دولة في المنطقة، للحفاظ على أفضليتها وتفوقها العسكري.

 

سادسًا: قضية  فلسطين:

ولا يمكن أن يمر الاجتماع بين الوزيرين دون التطرق إلى قضية فلسطين، والموقف التركي من الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين؛ إذ تأخد أنقرة مواقف شديدة تجاه هذه الانتهاكات.

واتخذت تركيا قرارًا باستدعاء سفيرها من إسرائيل، وطرد السفير الإسرائيلي من أراضيها، عقب مسيرة العودة الكبرى، التي جاءت احتجاجًا على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وحصار قطاع غزة.

وهنا فإنَّ أمريكا ربما تتدخل لوقف حدة التصعيد التركي، لسببين؛ أولًا: تمرير هادئ لـ “صفقة القرن” بالاتفاق مع عدة أطراف في المنطقة، مثل مصر والسعودية على وجه التحديد، أما ثانيًا: فإنّ الموقف التركي يسبِّب حرجًا بالغًا للأطراف المتواطئة مع صفقة القرن؛ إذ لن تتمكن من اتخاذ موقف مماثل لتركيا، بما يضعها تحت مقصلة شعوب المنطقة.

سابعًا: الأزمة مع دول الخليج:

ومن المتوقع أيضًا تطرق اللقاء إلى الأزمة الخليجية وحصار قطر؛ إذ تعتبر تركيا من أكبر الدول الداعمة للدوحة، منذ قرار الرباعي العربي “السعودية والإمارات والبحرين ومصر” حصار قطر.

وقررت تركيا تفعيل اتفاقية للدفاع عن قطر، ونقل وحدات عسكرية إلى الدوحة، عقب حصار الرباعي العربي لقطر، وإمدادها بالمواد الغذائية.

هذه الأزمة أسفرت عن توتر في العلاقات بين تركيا ودول الخليج وعلى رأسهم السعودية والإمارات، هذا فضلًا عن التوتر الكبير مع مصر، على خلفية رفض أردوغان الإطاحة بمحمد مرسي من الحكم، وهذا لا يصبّ في صالح أمريكا، التي يهمها تناغم كل هذه الأطراف، بما يحقِّق مصالحها في منطقة الشرق الأوسط.

 

ثامنًا: تسليم فتح الله كولن:

ويمثل تسليم أمريكا لفتح الله كولن، محورًا هامًا، في المشاورات الثنائية، خاصةً وأنَّ أردوغان يتهمه بالأساس بالضلوع في الانقلاب ضده، العام قبل الماضي، في ظل استمرار تواجده في أمريكا.

وعلى الأقل يمكن ضمان عدم اتخاذ كولن أي خطوات أو دعم لجماعات أو أطراف في تركيا، ضد أردوغان خلال الفترة المقبلة، بما يعني تسكين الأزمة، بلا إنهاء شامل لها.

 

 

فض الاشتباك

وبعد استعراض أبرز نقاط الخلافات بين الدولتين خلال الفترة الماضية، لا بدَّ من وضع سيناريوهات لنتائج هذا اللقاء المرتقب:

 

أولًا: حل الخلافات:

أمريكا بلا شك تسعى لإنهاء الخلافات مع تركيا خلال الفترة المقبلة، ولكن هذا متوقف على تقديم كل طرف تنازلات، وتحديدًا حلحلة الموقف الأمريكي تجاه الأكراد بالأساس، وهو ما ظهرت مقدماته من خلال الاتفاق الثنائي حول منبج السورية.

وبالتالي فإنَّ أمريكا قدمت تنازلات في مسألة دعم الأكراد، بانتظار حسم باقي الملفات والقضايا الخلافية، وتحديدًا إنهاء التقارب مع روسيا، أو على الأقل عدم تطويره، وبالأخص فيما يتعلق بشراء الأسلحة الروسية.

ولكن هذا يتوقف على التنازلات التي يمكن أن تقدمها أمريكا في هذا اللقاء، والتوصل لحل نهائي للأزمات- وهو السيناريو الأول-، بما يمهّد للقاء مشترك بين الرئيسين أردوغان وترامب خلال الشهرين المقبلين.

 

ثانيًا: حل وسط:

السيناريو الثاني، يتعلق بالأساس بالاتفاق على نقاط مشتركة حول عددٍ من القضايا الخلافية، وتقديم الحد الأدنى من المرونة من الطرفين لأبرز أولويات كل طرف، بما يشكل حلًا وسطًا مؤقتًا، بانتظار الاتفاق على كل النقاط الخلافية.

ومن غير المتوقع إنهاء كافة القضايا الخلافية في اللقاء المرتقب، ولكن على الأقل سيكون هناك توافق في نقاط أساسية وتخوفات كل طرف، وفقًا لمراقبين.

 

ثالثًا: استمرار التوتر:

السيناريو الأخير، يتعلق باستمرار التوتر في العلاقات بين الدولتين، وهو إن كان مستبعدًا، في ظل رغبة أمريكا في استمالة تركيا، ولكن يظل قائمًا، إذا لم تقدِّم واشنطن على تقديم تنازلات بشكل فعلي في الملفات التي تمثل أرقًا مزمنًا لدى أنقرة.