في عشاء عمل مالت إليّ صديقتي الأسبانية و سألتني عن رأيي في قصر “توب كابيه” ، أحد أشهر معالم اسطنبول السياحية والذي وضعته على جدول مزاراتها في رحلتها القصيرة ، نظرت إليها على استحياء و قلت لها لا أعرف ، لم ادخله من قبل.
فكررت في سؤالها ، إذن ما رأيك في كنيسة “أيا صوفيا” هل تستحق الذهاب إليها ،، فكررت أنا جوابي ، لا أعرف لم أدخلها .
إذن أكيد أنك ذهبتي إلى “مينا ترك ” ، ابتسمت محركة رأسي بالنفي ، لم أزرها .
اعتدلت في جلستها و سألتني ، إن كنت بالفعل أقيم في اسطنبول منذ أربعة أعوام !
نعم يا صديقتي ، أنا على مشارف إتمام عامي الرابع و لم أزر كل هذه المعالم الآتي إليها القاصي والداني ، لم أدخل قصر “دولما باهشا” الشهير ، لم أصعد برج “جلطة” و التقط السيلفي و اسطنبول من خلفي في الكادر الأشهر الذي يوثقه كل السائحين ، لم احتسي القهوة أمام برج الفتاة ، لم أقتطع وقتًا لزيارة غرف حريم السلطان ، لم ، و لم ، ولم
بيد أنني قضيت أول 7 أشهر هنا بحقيبة صنعت منها دولابا لملابسي ، استخرج منها ما احتاج و أعيده لها مرة أخرى ، ليقر في نفسي اننا على موعد قريب مع العودة واننا لن نحط الرحال هاهنا
مر عامي الأول و انا أرفض الوجود ، و البقاء ، و التعايش ، و الاندماج
أقضي معظم ساعات يومي في العمل وأعود لأقرأ في منزلي أو أخرج في تمشاية مع صديقة لمكان قريب
أنا يا صديقتي صنعت بنفسي لنفسي تابوتًا أسميته الاغتراب و عشت فيه ، أوهمتني أنني بذلك أؤدي ضريبة حب الوطن الذي اعتقدت انها أسقطت عنى قسرًا مع ختم الخروج من أرضه
أنا أقنعت نفسي مرات عديدة أن الله منحنى الأمان ، وأن الاستمتاع بملذات ما حولي محض ترف و سفه قد أُسأل عنه
أنا نظرت إليَ باستصغار مع كل لحظة شعرت فيها أنني أبتهج بمنظر جميل من حولي
بينما آخرون يقضون عامهم الرابع في زنزانة لا يعرف النهار لها سبيلا
رغم أن كلانا لا يملك في وضعه اختيار
لم استغرب نظرات استهجانها لما أقول ،ربما لأن عقليتها الأوروبية لا تستوعب كل هذه الدراما غير المبررة ، و ربما لأنني أعلم أنها ترى أنه ليس من البطولة في شيء ، ليس من الدين ولا الدنيا أصلًا ، الإسلام لم يطلب منا السير على خطى الرهبانية
و الحياة فيها مراغم كثيرة ، والأيام لا تمد يديها لمن أشاح بوجهه عنها
والناس لا يتعاطفون مع الضحايا ،، و مآسينا نعيشها فرادى
ثم ما الضير في رحلة على ضفاف البسفور مثلًا ؟؟
وما المانع من أن تسافر و تتعلم و تسيح في الأرض ومع هذا تحمل هم قضيتك بين جوانحك سفيرًا أمينًا عليها و لها
نعم لا ضير ، و لا مانع
الحكاية يا صديقتي أننا حاولنا العيش حياة كالحياة ، لكننا وجدنا أنفسنا نزهد زهدًا لا يُرضي ضمائرنا ونستغنى استغناءً لا يشفع لنا أمام أنفسنا وننتشى ما إذا سافرنا أسفارا بعيدة والتقطنا صورًا تذكارية لنفعل ما يفعله المسافرون على أعتاب كل مدينة يزورونها
لكننا ما نبرح حتى توغزنا ضمائرنا أن ثمة من يرى الصور تلك و هو بين جدران أربعة
قد تراها أم مكلومة فيجيش في صدرها ما يريها أن ابنها حيث أنا
نعم حاولنا ،، و نحاول ، وسنحاول أن ننسلخ من الحنين لكننا ننجح مرة و نخفق ألف مرة ومع هذا نردد العبارات ذاتها في كل سؤال عن دروسنا المستفادة، عبارات فلسفية منمقة تتسق مع المنطق ولا تتسق مع الوجدان
أن الوطن حيث تتنفس هواءً لا ظلم فيه ولا ضريبة وان اخلع عنك رداء الشوق إلى أشياء لن تنتظرك حين تعود و سح في أرض الله الواسعة ولا تؤجل أحلامك وابتسامتك على تذكرة سفر بلا موعد للعودة .
امضِ إلى حيث تريد ، ربما أحسن أحدهم الاستماع و الوصول ، و نجح فيما فشلت فيه أنا.. رغم أنني أحاول لا أزال!
اُسلوب رائع ينساب كخيوط الحرير .
لاضير ان يستمتع المرء في أسفاره دون إسراف فقد لاتتكرر الفرصة ثانيةً ، وقد يصاب الوجدان بوخز الضمير ولكن يظل الانسان مجموعة من المشاعر المتناقضة.