العدسة – منذر العلي

في خطوة هي الأولى من نوعها منذ ثورة 25 يناير 2011، زار سفير الاحتلال الإسرائيلي لدى القاهرة “ديفيد جوفرين”، الثلاثاء، ضريح “أبو حصيرة”، في محافظة البحيرة شمالي مصر.

وهو الضريح الذي يزعم اليهود أنه لحاخام يقدسونه يُدعى “يعقوب بن مسعود أبو حصيرة”، ووفق تقارير إسرائيلية، فـ”أبو حصيرة” (1805-1880م) حاخام يهودي من أصل مغربي، عاش في القرن التاسع عشر، ومات في قرية “دميتوه” بمدينة دمنهور خلال رحلته من المغرب إلى القدس.

وذكرت مصادر، أن زيارة السفير الإسرائيلي جاءت وسط إجراءات أمنية مشددة، واستغرقت نحو 30 دقيقة فقط داخل الضريح، بينما نشرت الصفحة الرسمية للسفارة على فيسبوك (إسرائيل في مصر) تقريرًا مصورًا عن الزيارة.

ويظهر السفير خلال الفيديو المنشور أمام القبر المزعوم، قائلًا باللغة العربية: “يسرني ويشرفني أن أقوم بزيارة إلى هذا المعلم المقدس لليهود في مصر والعالم، ضريح الحاخام العلامة الراحل يعقوب أبو حصيرة رحمه الله الذي توفي في مدينة دمنهور في طريقه من المغرب إلى الأراضي المقدسة”.

السياسة تغلب القضاء!

وثمة دلالة في غاية الأهمية وراء تلك الزيارة النادرة، فالفترة الحالية تشهد تقاربًا تاريخيًا وغير مسبوق بين مصر والاحتلال، تجلت في اللقاء المعلن الأول بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في سبتمبر الماضي.

وبطبيعة الحال، فإنه لولا هذا التقارب لما كانت الزيارة تتم مصحوبة بتشديدات أمنية كبيرة، رغم اختفاء أي احتجاج شعبي مناهض للزيارة، غير المعلنة، عكس سنوات ما قبل الثورة عندما كانت تقابل احتفالات اليهود بالمولد أواخر ديسمبر أوائل يناير من كل عام بموجة رفض شعبية، انتهت بحكم قضائي أصدرته محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية في ديسمبر 2014.

الحكم حظر الاحتفال “جراء ارتكاب العديد من الأفعال التي تخالف الأخلاق في السنوات الماضية”، وفق حيثياته، كما أمرت المحكمة الحكومة بشطب قبر أبو حصيرة من سجلات الآثار المصرية.

زيارة السفير لم تتحدَّ هنا مشاعر المصريين الرافضين شعبيًا لمظاهر التطبيع مع إسرائيل فحسب، رغم التطبيع السياسي والاقتصادي والأمني فقط، وإنما ضربت عرض الحائط بحكم القضاء.

إلا أن الحجج الإسرائيلية المقبولة مصريَّا، كانت جاهزة حيث أفادت مصادر بأن ما حدث كان “زيارة وليس احتفالًا”.

وكان الضريح مفتوحًا باستمرار لتوافد مئات اليهود من إسرائيل والمغرب للاحتفال كل عام منذ معاهدة السلام عام 1979، إلا أنه جرى منعهم من زيارة الضريح بأمر قضائي في عامي 2001 و2004.

لكن الاحتفلات تواصلت بين عامي 2004 و2010 على استحياء، ووسط احتجاجات شعبية متصاعدة، كان أشدها ما شهدته مصر قبل أيام من ثورة يناير، حيث تظاهر كل من جماعة الإخوان المسلمين وائتلاف “مدونون ضد أبو حصيرة”، وحملة “لن تمروا فوق أرضي”، وحزبي الغد والكرامة أمام مجمع المحاكم بدمنهور، احتجاجًا على استمرار الحكومة المصرية في إقامة المولد وعدم تنفيذها أحكام القضاء.

وأقام الأهالي عدة دعاوى قضائية لإلغاء المولد في سبتمبر 2001، حيث تم جمع مليون توقيع ليصدر حكم قضائي نهائي في العام نفسه من المحكمة الإدارية العليا، يقضي بإلغاء قرار وزير الثقافة حينها فاروق حسني باعتبار ضريح “أبو حصيرة” من المناطق الأثرية، وبالتالي إلغاء كافة مظاهر الاحتفال.

وظل الوضع هكذا بين احتفالات تتم، ونظام حكم يتحدى أحكام القضاء، وشعب غاضب، إلى أن قامت ثورة يناير وأُلغيت الاحتفالات عمليًّا، حتى صدر الحكم المشار إليه سابقًا في 2014، ليعيد السيسي ونظامه كَرَّة مبارك مرة أخرى بزيارة السفير، رغم ما سيق حولها من حجج.

محاولات اليهود.. “قدس” جديدة؟

وكأنها مدينة القدس المحتلة، التي اجتهد اليهود في شراء أراضيها من الفلسطينيين المُعدِمين ونجحوا في ذلك بنسة كبيرة، حيث سعى اليهود على مدار أعوام إلى شراء الأراضي المحيطة بضريح “أبو حصيرة” من أجل توسيعه، ووضع المصريين أمام الأمر الواقع.

تقارير إعلامية، قالت إن اليهود سعوا أيضًا إلى شراء 5 أفدنة مجاورة للمقبرة بهدف إقامة فندق عليها يقيم فيه الزوار من اليهود خلال فترة المولد إلا أن طلبهم قوبل بالرفض خشية الغضب الشعبي.

وبدأت تبرعات اليهود تنهال لتوسيع المقبرة وإنشاء جسر يربط القرية، التي يوجد بها الضريح بطريق علوي موصل إلى مدينة دمنهور القريبة حتى يتيسر وصولهم إليها، وأطلقوا على الجسر أيضًا اسم أبو حصيرة، لكن مخططات التوسعة والترميم كانت دائمًا تصطدم بالرفض الشعبي.

هذا الرفض ينبع أساسًا ـ بخلاف الموقف الشعبي من التطبيع مع إسرائيل ـ من الظروف المحيطة بالمولد حيث تتحول قرية “دميتوه” إلى ثكنة عسكرية، وكذا طرق اليهود في الاحتفال وممارساتهم المستفزة للأهالي.

الاحتفالات تشهد شرب الخمور وسكبها فوق المقبرة ولعقها بعد ذلك، وذبح الخراف والخنازير وشوي اللحوم والرقص على بعض أنغام الموسيقى اليهودية بشكل هستيري وهم شبه عرايا بعد أن يمزقوا ملابسهم، وذكر بعض الأدعية والتوسلات، والبكاء بحرقة أمام القبر، وضرب الرؤوس في جدار الضريح للتبرك، وفق التقارير.

ورغم كل هذا بقيت الحجة اليهودية تقول: إن الضريح يرجع لهذا الحاخام المقدس، وأن منعهم منه اعتداء على حرياتهم الدينية، لكن الحكم الصادر في 2001، قال صاحبه المستشار مهند عباس وقتها: “نحن نؤكد أن هذا ليس أثرا تاريخيا وليس لليهود أي مكان في مصر، كما أننا لم نتأكد ما إذا كان المدفون في هذا المكان يهوديا أم لا، ولهذا رفضنا إقامة مولد لإقامة أي شعائر أو طقوس دينية”، بحسب شهادة المستشار البيومي محمد البيومي نائب رئيس مجلس الدولة.

زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار سابقًا، قال عن مولد أبو حصيرة: “ليس للآثار أي دخل بهذا المولد، وهو ليس أثرًا بالنسبة لنا ونتفق مع أحكام القضاء في إلغائه”، مضيفًا: “مولد يقام في حارة من الحواري في إحدى القرى المصرية ليس للآثار أي دخل به”.