العدسة: محمد العربي

وكأنه توقع ما سيحدث معه من أبناء مهنته بعد رحيله .. هكذا وصف المتابعون ردود أفعال المثقفين والمفكرين العرب لقضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حيث غرد الراحل عبر حسابه على تويتر قبل مقتله بأسبوعين، منتقدا موقف المثقفين السعوديين من المواطنين السعوديين غير الأصليين أو المجنسين، وحذر خاشقجي بما أسماه تسلل “ثقافة العنصرية” للمثقفين والطلبة بالمملكة إلى حد وصفهم مواطنين من بني جلدتهم بأنهم “غير أصليين”، في إشارة إلى كون أصولهم غير سعودية.

ويبدوا أن ما أسماها خاشقجي بثقافة العنصرية قد تسللت ضده شخصيا، وهو ما ظهر في تعاطي المثقفين والكتاب العرب وخاصة السعوديين لأحداث قضيته التي بدأت بدخوله مقر قنصلية بلاده باسطنبول في الثاني من أكتوبر الجاري، ورغم أن روحه خرجت بالفعل من القنصلية، إلا أن مكان جثمانه مازال مجهولا.

انتماء أم تمويل

وطبقا للمراقبين فإن تعاطي المثقفين العرب مع قضية خاشقجي شهد انقساما حادا بين ثلاثة اتجاهات، الأول كان مع الراحل منذ البداية وهو ما مثله المثقفون والكتاب الهاربون من نيران استبداد أنظمتهم، وكان في مقدمتهم المصريين والفلسطينيين واليمنيين المطاردين والمهاجرين، بالإضافة للمثقفين الذين لا تجمع بين بلادهم وبين النظام السعودي مصالح تؤثر بالسلب على مواقفهم في القضية كالجزائرين والتوانسة والمغاربة.

أما الاتجاه الثاني فقد اصطف فيه المثقفين السعوديين وزملاءهم من أتباع النظم العربية المؤيدة لولي العهد القاتل محمد بن سلمان، وقد جمع هؤلاء كره جماعة الإخوان المسلمين وكل من يدافع عنهم أو يتبنى مواقفهم حتى لو لم يكن من بين صفوفهم كما هو حال خاشقجي.

وقد استخدم هذا الفريق كل إمكانياته في تشويه صورة الصحفي الراحل، لحد وصفه بأنه كان عميلا استخباراتيا تارة للأمريكان وأخرى للأتراك وثالثة للقطريين، بينما اعتبر آخرون أن القضية ما هي إلا مسرحية، وحتى بعد اعتراف النظام السعودي بأن خاشقجي قتل على يد رجال النظام، فإن الروايات المدافعة عن مولاهم ولي العهد لم تتوقف.

وبين الاتجاهين وقف فريق ثالث تكتنفه الحيرة عن أي مربع يضع فيه قدمه، إلا أنه بعد اعتراف السعودية بعملية القتل، اتخذ هذا الفريق توجها داعما وناعيا للمغدور به خاشقجي، في وقت وجهوا فيه نصائح للسعودية تحمل بين ثناياها اتهامات بتلوث أيديهم بالدم، ويـأتي في مقدمة هذا الفريق مجموعة من بقايا الكتاب المصريين والقوميين العرب الذين يحاولوا دائما الوقوف في منتصف الدائرة باتزان كامل.

هؤلاء الذين قتلوه

الكاتب والصحفي المصري أيمن الصياد الذي عمل لفترة مستشارا للرئيس المصري محمد مرسي، وصف حال المثقفين العرب مع قضية خاشقجي في مقال مطول نشره بجريدة الشروق المصرية أمس الأحد تحت عنوان “الثقافة التي قتلت“، أكد فيه أنه لا يوجد عربي «حقيقي» كان يتمنى أن تواجه السعودية / العربية ( بفعل بعض أبنائها، وبفعل ثقافة تراكمت، فترسخت) ما تواجهه الآن، مشيرا إلى أن من قتل جمال (وكل جمال) ليس مجرد فرد أو مجموعة أمنية رسمية (وإن فعلت)، بل قتلته، وقتلتهم قبل ذلك ثقافة تسمح بذلك.

وانتقد الصياد الذين يسخرون من المبالغة في الاهتمام بالواقعة، ويتحججون بمقولة إنه «ليس الأول»، مضيفا عليهم أنه أيضا ليس الأخير، داعيا كل فريق بأن يخرج من «حلبة الملاكمة»؛ هجوما ودفاعا. ويعودوا للخلف خطوتين، على أمل أن يروا الصورة جلية واضحة.

ويضيف الصياد: ” إن ثقافة «شوفينية أو دينية» مشوهة تسمح بأن يظن من قتل جمال (وكل جمال)، عبر تاريخنا كله أنه إنما يقوم بواجبه لصالح الوطن، أو لرفعة الدين وإعلاء كلمة الله .. ثقافة تسمح بأن يظن من يملك القوة؛ سلاحا كان، أو نفوذا، أو تراتبية اجتماعية أو سياسية أن لا تثريب عليه. فهو يعرف أن لا أحد يجرؤ على سؤاله، فما بالك بمساءلة أو محاسبة.

واختتم الصياد مقاله قائلا: “لم يُقتل جمال فقط في هذا اليوم المشئوم الثاني من أكتوبر، بل قُتل ألف مرة بعد ذلك، قتله أولئك الذين استكثروا علينا الاهتمام بقتله، وقتله أولئك الذين لديهم ما يخفونه فاعتبروا الاهتمام بقتله (أكرر: بقتله) مجرد «هيستريا»، وقتله إعلام استكثر على خبر فاجعة مقتله (وهو كان يوما رئيسا لتحرير مطبوعتين كبيرتين) تغطية لم تعطها للخبر غير مطبوعات أجنبية من الشرق والغرب.، وقتله زملاء مهنة وجدوا كراسيهم ومميزاتها «أبقى من دمائه»، وقتلته مؤسسات دينية رسمية، لم تخرج بياناتها لتذكرنا بما نعرف من أن قوما قبلنا هلكوا «لأَنَهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ» بل لتذكرنا بالطاعة الواجبة لأولي الأمر، وقتله الذين اعتبروا أن الانتصار للقبيلة، أولى من الانتصار للمظلوم. الذين نسوا ما قاله رسولهم الكريم من أن الانتصار لأخيك الظالم «يكون بالأخذ على يديه»، وقتله أولئك الذين لم تردعهم أخلاقهم، فعرضوا بخطيبته على مواقع التواصل الاجتماعي بإسفاف استدرج إليه للأسف مسؤولون رسميون، وقتله أولئك الذين حاولوا خروجا من مأزقهم أن يشوهوا الرجل للإيحاء بأنه «يستحق القتل» هكذا خارج القانون، وقتله من أجبر من يعرفون الحقيقة على الصمت. ومن أجبر آخرين على الكذب؛ خوفا أو طمعا.

لهذا صمتوا

ويرى المتابعون لهذا الملف أن الفريق الآخر من المثقفين العرب الذين لاذوا بالصمت ملجئا، عندما تحدثوا عن سبب صمتهم كانوا أكثر قسوة وأشد بجاحة من الذين انتقدوا القضية علنا منذ البداية، حيث برر هؤلاء موقفهم الصامت المخزي إما لأنه بسبب الانتماء الفكري المخالف، أو لأن القضية لا تحمل جديدا فقد سبقها حوادث لا تقل بشاعة مثل اختفاء الصحفي المصري رضا هلال منذ ما يقرب من عشرين عاما، وكذلك ما جرى لمفكرين وسياسيين عرب آخرين، وبالتالي فما هو جديد قضية خاشقجي.

ويشير المحللون إلى أن من أبرز الذين قدموا هذه المبررات وزير الثقافة المصري الأسبق جابر عصفور الذي دعا في تصريحات صحفية لعدم ظلم المثقفين المصريين باعتبار أنه لا توجد لديهم الحقائق حتى يبدو رأيهم في الموضوع، مشيرا إلى أن القضية لها أطراف عدة؛ فالسعودية من طرف اعترفت بها، وتركيا من جهة أخرى وهي تخبئ الكثير والكثير، فالمسألة شكليًا تم التعرف إليها”، موضحًا أن “صورة الملك سلمان وولي العهد مع ابن جمال خاشقجي تدل على أن الوضع في طريقه للحل”.

أما أخطر ما جاء في تبرير عصفور فهو رد مسئولي جريدة الأهرام المصرية عندما سألهم عن سبب عدم كتابتهم حول موضوع خاشقجي، فأجابهم المسئولين بالجريدة قائلين ” لا يوجد لدينا معلومات حقيقية والصورة ليست واضحة حتى الآن”.

أسباب أخرى

وطبقا للمتابعين فإن الفريق الذي حمل منذ البداية لواء الدفاع عن خاشقجي وشن هجوما على النظام السعودي، يرى أن موقف المثقفين العرب والسعوديين على وجه التحديد، سوف يؤدي لكارثة وهي تبريرهم لتقنين الموت، حيث انتقد المدافعون عن خاشقجي موقف أولئك الذين نفوا في البداية أن يكون هناك قتلا من الأساس، ثم بعد أن ثبت القتل نصبوا أنفسهم منصات دفاع راسخة عن ابن سلمان، ليس هذا فحسب بل قام بعضهم بتقديم المبررات الشرعية والعقلية لولي العهد القادم، في محاولة مستميتة لتحويل القاتل لضحية، وردم حق الضحية الحقيقي في باطن الأرض كما ردمت حقوق آلاف الضحايا السابقين الذين شاهد العالم كله مشاهد قتلهم وسحلهم في مصر وسوريا واليمن وليبيا على يد أنظمتهم الحاكمة، وفي فلسطين على يد المحتل الإسرائيلي.

وقد عبر عن هذا الموقف بشكل متعدد رئيس تحرير جريدة القدس العربي السابق عبد الباري عطوان والذي شن هجوما على الأنظمة والشخصيات التي تضامنت مع السعودية رغم ثبوت قيامها بالجريمة.

ومن وجهة نظر الكاتب والباحث عبد الله النملي  فإن اغتيال خاشقجي يمثل رسالة للمثقفين وكل أصحاب الرأي الذين يخالفون السلطان، مشيرا في مقال له بجريدة “رأي اليوم” أن تاريخ السعودية مع مخالفيها مملوء بالعنف، فمنذ “الربيع العربي” قامت قوات الأمن السعودي باعتقال عشرات من المثقفين والصحفيين والأكاديميين و العلماء والنشطاء المطالبين بإصلاحات سياسية، كما مارست الداخلية السعودية العنف في قمع الحملات المطالبة بحقوق المرأة، و بالأخص حملة “القيادة للنساء”، فكان المقابل هو الاعتقال والاحتجاز التعسفي والمنع من السفر خارج البلاد.