العدسة_ موسى العتيبي

جدل واسع أحدثته تصريحات الأمير السعودي، محمد بن سلمان، التي تحدث فيها عن عزمه تدمير مشروع الصحوة، الذي تشكل في السعودية بعد عام 1979، وأن  المملكة، لن تضيع 30 عاما في محاربة التطرف، لكنها ستدمر التطرف اليوم وليس غدا.

بن سلمان وعد أيضا بالعودة بالمملكة إلى ما كانت عليه قبل هذا التاريخ، وهو الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على جميع الأديان والتقاليد والشعوب، وفقا لقوله.

فلماذا ربط بن سلمان التطرف في السعودية بعام 1979؟ وما الذي حدث بعد هذا العام؟ وما الذي قصده بمشروع الصحوة؟ وماذا يعني إعلانه تدمير التطرف اليوم وليس على مدار ثلاثين عاما؟ وما هو الإسلام الوسطي المعتدل الذي قصده بن سلمان؟

وبحسب مراقبين فإن عام 1979 وقعت فيه عدة أحداث هامة تجيب عن تلك الأسئلة، كونها شكلت تغييرا كبيرا في واقع الدول، سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى العربي، والتي بدورها انعكست على طبيعة المجتمعات.

الثورة الإيرانية

أولى تلك الأحداث،  هي الثورة الإيرانية التي تولى آية الله الخميني فيها مقاليد السلطة في إيران في فبراير 1979، الأمر الذي شكَّل انقلابًا جذريًا في إيران بشكل خاص، وفي دول الخليج بشكل عام.

ومع نجاح الثورة الإيرانية الإسلامية، وإطلاق الثورة ما يعرف بولاية الفقيه، واتخاذها سلسلة شعارات أعجب بها كثير من الشعوب العربية والإسلامية، وأزعجت بصورة أو بأخرى الداخل السعودي، والخليجي بشكل عام، خصوصا أن جمهورية إيران الإسلامية في البداية صدرت الثورة إلى دول الجوار، وخاصة العراق ودول الخليج، ومنها السعودية.

ومن الأحداث المتأثرة بالثورة الإسلامية الإيرانية ما عرف بأحداث انتفاضة محرم في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية في نوفمبر 1979، أي بعد نجاح الثورة بعدة أشهر.

وبعد تلك الأحداث استضافت إيران بعض المعارضين السعوديين الشيعة داخل أراضيها، محاولة استقطاب شيعة الخليج وتأليبهم على حكامهم، مستغلة ـ دون شك ـ بعضًا من المضايقات التي تواجه الأخيرين في بعض هذه الدول.

هذه الأحداث جعلت حكام السعودية آنذاك يفكرون بطريقة تجعل عموم الشعب السعودي رافضا لتصدير الثورة إليهم، فخرجت الخطب والدروس والمناهج والحلقات التي تهاجم الشيعة، وتدعوا للتمسك بالمذهب السلفي الوهابي، ما جعل هذا التيار يتوغل ويتعزز بقوة داخل المجتمع السعودي.

حركة جيهمان العتيبي

في عام 1979 حدثت أيضا حادثة احتلال المسجد الحرام على يد جماعة “جهيمان العتيبي”  حيث قام أحد السعوديين ويدعى جهيمان العتيبي، ومعه مجموعة كبيرة من المسلحين باحتلال المسجد الحرام وإعلان مبايعة  أحدهم ويدعى “محمد بن عبد الله القحطاني” على أنه المهدي المنتظر، وذلك  في غرّة محرّم من العام 1400 هـ، الموافق 20 نوفمبر 1979.

وطالب “العتيبي” جموع المصلين بمبايعته، وأوصد أبواب المسجد الحرام، ووجد المصلّون أنفسهم محاصرين داخل المسجد الحرام، وقرروا الخروج على الحاكم، وكان وقتها الملك “خالد بن عبد العزيز” وطالبوا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإقامة دين الله على أرضه.

وبعد محاصرتهم لعدة أيام صدرت فتوى بمحاربتهم؛ فاقتحمت القوات السعودية المسجد، ودار قتال انتهى بموتى من الطرفين، واستسلام وأسر البقية من فرقة جهيمان الذين تمت محاكمتهم وإعدامهم فيما بعد.

لكن ما لفت نظر  القائمين على حكم السعودية آنذاك، أن مجموعة جهيمان العتيبي، كان أغلبها من الشباب صغير السن، الذي اقتنع بكفر الحاكم ووجوب الخروج عليه، واتخذوا من المسجد الحرام بداية لإقامة دولتهم الإسلامية.

وخوفا من أن تتكرر مثل تلك الحركات، أخذت الدولة في التقرب بصور مختلفة لعلماء الدين، وقدمتهم في كل المناصب، كما عمدت الدولة آنذاك لإعطاء مساحة أكبر وصلاحيات أوسع لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الغزو السوفيتي لأفغانستان

وفي ديسمبر عام 1979 أيضا، غزا جيش الاتحاد السوفيتي –آنذاك- دولة أفغانستان، واحتلها بناءً على طلب من زعيم الحزب الشيوعي الحاكم -حفيظ الله أمين- الذي وصل عبر انقلاب عسكري، إلا أن الأغلبية كانت مسلمة محافظة، ولم يكن الوقت مناسبًا ليتولى حزب شيوعي دولة عريقة بالإسلام.

تلاقت مصالح أمريكا من جهة، مع الدول الإسلامية من جهة أخرى، وتكاتفوا لدعم الأفغان في ثورتهم لإخراج السوفيتي المحتل.

ولأن السعودية رأت آنذاك أن الاتحاد السوفيتي يخطط لتطويق أراضيها عبر قوس يمتد من اليمن الجنوبي في جنوب الجزيرة العربية والحبشة بدعم الحكومة العسكرية اليسارية في الصراع على إقليم أوغادين ومحاربة المقاتلين في إريتريا، فقامت بدور كبير في إرسال الراغبين في القتال بأفغانستان من مواطنيها وغيرهم، بتوفير تذاكر سفر وخطوط الطيران الدائم إلى بيشاور وإسلام آباد، كما دفعت هيئات الإغاثة السعودية إلى العمل في بيشاور وأفغانستان لصالح العرب والأفغان.

الجهاد خارج الأراضي السعودية كان مباحا من قبل الدولة، بل كان مدعوما، وكان الملك سلمان حاليا، الأمير وقتها هو من يجمع التبرعات بنفسه للمجاهدين الأفغان، حيث سارعت السعودية بتوفير الأموال الكافية لدعم الأفغانيين، وفتحت أبواب الدعوة للجهاد في أفغانستان، أمام عشرات الآلاف من السعوديين والعرب للقتال في تلك البلاد، وأصبحت الدعوة للجهاد على المنابر والإذاعات والصحف، وبدعم رسمي كامل.

وفي يناير ١٩٨٠ قامت المملكة العربية السعودية بتقديم نحو 800 مليون دولار إلى باكستان لدعمها في مناصرة المجاهدين الأفغان، وذلك بعد عام من الغزو السوفيتي لأفغانستان.

ومع انتهاء الحرب في أفغانستان، وانهيار الاتحاد السوفيتي، عاد المجاهدون السعوديون إلى بلادهم، لكن بحال غير التي خرجوا بها، فالأفكار تغيرت، وأصبح الوازع الديني لديهم أقوى وأشد مما كان عليه، كما أن أفكارهم عن السلطة والحاكم اختلفت بشكل كبير، خصوصا مع بدء تشكيل تنظيمات مسلحة كالقاعدة وغيرها.

السعودية التي دعمت المجاهدين بالأمس وجدت نفسها اليوم، تلقي القبض عليهم وتزج بهم في غياهب السجون، وتتهمهم بحمل أفكار تكفيرية متشددة.

ظهور التيار الصحوي

كل تلك الأحداث المتلاحقة دفعت إلى ظهور تيار جديد في السعودية في ثمانينيات القرن الماضي، أطلق عليه تيار “الصحوة” أو الصحوة السعودية أو صحوة بلاد الحرمين، وهي حركة نشأت بدعم من مجموعة علماء الدين، أثناء كل الأحداث السابقة، ضمت مئات بل آلاف من الشباب المتحمس للدفاع عن الدين الإسلامي.

التيار الصحوي لم يكن تنظيما له قائد بقدر ما كان تيارا فكريا يدعو الناس إلى الالتزام والدين، دون التقيد بتنظيم معين، ليضم مشروع الصحوة الإخوان والسلفيين، وحتى بعض الجهاديين.

ويعد أبرز من قادوا تيار الصحوة في هذا الوقت، الشيخ  سلمان العودة في بريدة، وعائض القرني في أبها، وسفر الحوالي في جدة، وناصر العمر وسعد البريك في الرياض.

وتواجه الصحوة اليوم حركة مضادة في السعودية يحمل لوائها الليبراليون السعوديون،  وتشهد الساحة الإعلامية والثقافية والاجتماعية السعودية جدلاً ونقاشاً مستمر بين أتباع الفكر الصحوي والتيارات الليبرالية المنادية بتقليل سلطة رجال الدين الإسلامي ونفوذهم الاجتماعي في المملكة.

تغيرات حدثت بالمملكة

ونظرا لاختلاط العوامل الثلاث سابقة الذكر، وبالتزامن مع ظهور تيار الصحوة، قدمت السعودية نفسها على مدار عقود طويلة، على أنها رائدة الإسلام السني في العالم، وحملت هذا اللواء، وفرضت نوعا من التدين الظاهري على كافة جوانب المجتمع، سواء في التعليم أو الإعلام أو الثقافة أو غير ذلك.

وحرصًا من السعودية على عدم استفزاز الشباب المتدين والجيل الذي تكون في تلك الأُثناء، اتخذ الحكام المتعاقبون على المملكة، سلسلة إجراءات زادت فيها من القيود ضد المرأة ومنعت من ظهور النساء في وسائل الإعلام الحكومية، وشددت على الكتب المنفتحة ومنعتها، ووسعت من العوامل التي سمحت بازدياد الحاضنة الشعبية السنية في السعودية، خصوصا وأن التيار الصحوي لم يكن متعارضا مع نظام الملك في السعودية، بل كان متوافقا معه.

غير أنه، وبعد عشرات السنوات، بات هذا التوجه السعودي متعارضا مع طموحات بن سلمان للوصول إلى السلطة، حيث إن الشاب الحالم بالعرش قدم نفسه للإدارة الأمريكية الجديدة، ولدول الغرب، على أنه الرجل المخلص للسعودية من الراديكالية الإسلامية، وأنه الساعي للانفتاح على العالم.

ولذا قرر بن سلمان اتخاذ عشرات القرارات المثيرة للجدل، والتي تدعم توجهه الجديد، والتي سردتها العدسة في عدة تقارير سابقة.