العدسة – منصور عطية
مفاجئة من العيار الثقيل فجرتها المؤسستان الدينيتان الرسميتان الأكبر في مصر، على خلفية قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للاحتلال الإسرائيلي.
مشيخة الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية أعلنتا رفضهما استقبال نائب الرئيس الأمريكي “مايك بنس”، خلال زيارته لمصر في ديسمبر الجاري، احتجاجًا على قرار “”ترامب”، رغمم الإعداد المسبق للقاءين ضمن فعاليات الزيارة.
للوهلة الأولى، يبدو الأمر محرجًا بشدة للقيادة السياسية في مصر – التي رفضت الاعتراف بالقدس- بسبب العلاقة الوثيقة التي تربطها بالإدارة الأمريكية، لكن الأمر يحتمل شيئًا من التنسيق والترتيب بين القيادتين السياسية والدينية في البلاد لأسباب محتملة نفصلها لاحقًا.
استفزاز لمشاعر الملايين
البيان الأشد لهجة، والأكثر حدة، والأسبق أيضًا، كان لشيخ الأزهر أحمد الطيب، الذي أرجع رفض استقبال “بنس” إلى “موقفه الثابت تجاه قرار الإدارة الأمريكية الباطل بإعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية للقدس في تحدٍّ مستفز لمشاعر المسلمين حول العالم”.
“الطيب” قال إنه “لا يمكن أن يجلس مع من يزيفون التاريخ، ويسلبون حقوق الشعوب، ويعتدون علي مقدساتهم”، وتابع: “كيف لي أن أجلس مع من منحوا ما لا يملكون لمن لا يستحقون؟”.
أحمد الطيب “شيخ الأزهر”
وحمّل شيخ الأزهر الرئيس الأمريكي وإدارته “المسؤولية الكاملة عن إشعال الكراهية في قلوب المسلمين وكل محبي السلام في العالم، وإهدار كل القيم والمبادئ الديمقراطية.. وكذلك تبعات نشر الكراهية التي يعمل الأزهر الشريف ليل نهار على محاربتها”.
وفي أعقاب صلاة الجمعة الماضية، وجه شيخ الأزهر رسالة لأهالي القدس، قائلًا: “لتكن انتفاضتكم الثالثة بقدر إيمانكم بقضيتكم، ومحبتكم لوطنكم.. ونحن معكم ولن نخذلكم”.
وفي بيان آخر دعا “الطيب” قادة وحكومات دول العالم الإسلامي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والأمم المتحدة، إلى التحرك السريع والجاد لوقف تنفيذ القرار الأمريكي ووأده في مهده.
على خُطا “الطيب”، لكن بحدة أقل، ولهجة خفيفة، بدت وكأنها اضطرار إلى ذلك، أعلن البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، رفضه لقاء نائب الرئيس الأمريكي.
البابا “تواضروس”
بيان الكنيسة، بعد يوم واحد من بيان الأزهر، قال: “نظرًا للقرار الذي اتخذته الإدارة الأمريكية بخصوص القدس، في توقيت غير مناسب، ودون اعتبار لمشاعر الملايين من الشعوب العربية، تعتذر الكنيسة القبطية المصرية الأرثوذكسية عن استقبال السيد مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي خلال الزيارة المزمع القيام بها في ديسمبر الجاري”.
وأضاف: “نصلي للجميع بالحكمة والتروي في معالجة القضايا التي تؤثر علي سلام شعوب الشرق الأوسط”.
تجاوز الموقف الرسمي
ولا يزال الغموض يكتنف الموقف الرسمي للقيادة المصرية ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي من استقبال “بنس”، لكن الموقف المعلن للقيادة الدينية في البلاد يضع السيسي في حرج بالغ من هذا اللقاء المرتقب.
وعلى الرغم من الموقف المعلن للسيسي برفض قرار “ترامب”، إلا أن رفض استقبال نائبه بالقاهرة له حسابات أخرى، تحكمها العلاقات بين البلدين، والتي وصلت لذروتها مع قدوم “ترامب”، وما كشفه من تطابق مع السيسي لرؤى كل منهما بشأن قضايا المنطقة ومكافحة الإرهاب الإسلامي.
وبينما يرجح بيانا “الطيب” و”تواضروس” تراجعًا مصريًّا عن استقبال نائب ترامب، تدفع لغة المصالح وطبيعة العلاقة بين الرجلين السيسي إلى استقباله، فضلًا عما كشفته تقارير إعلامية بشأن العلم المسبق للسيسي بالقرار.
“ترامب” و السيسي
التقارير نقلت عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، قوله إن “ترامب” أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره، مشيرًا إلى استبعاده ردود فعل جدية من قبل هؤلاء الزعماء.
القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًّا”.
وكشف مراسل القناة العبرية أن كلاً من السعودية ومصر “أعطتا “ترامب” الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.
وتابع المراسل: “ومن المؤكد أن إعلان “ترامب”، وبداية إجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يعتقد البعض أنها قد تشعل المنطقة، لم يكن ممكنًا أن يتم دون التنسيق مع السعودية ومصر، فالفلسطينيون يدفعون ثمن التغييرات الكبرى في المنطقة”.
هل هو دور مرسوم؟
بعيدًا عن التحدي الظاهر في بياني “الطيب” و”تواضروس” للسيسي، والحرج البالغ الذي سبباه له، إلا أن ثمة سيناريو آخر يوحي بأن الأمر قد تم تدبيره وترتيبه بين الطرفين بعناية فائقة، ليصبحا معها مؤديين لدور محدد.
لكن ما الذي قد يدفع القائدين الدينيين إلى التماهي مع الموقف الرسمي؟ وما الأهداف التي تتحقق من وراء استجابتهما للعب هذا الدور؟.
“السيسي” و “الطيب” و “تواضروس”
مبدئيًّا، فإن العلاقة الودية التي قد تصل لمرحلة التبعية، تحكم علاقة السيسي بالمؤسسات الدينية في البلاد منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013، وبالتالي لا يوجد ما يجبرهما على تعكير صفو هذه العلاقة.
وعلى العكس من إمكانية تسبب موقفهما في الإحراج، فإن رفض “الطيب” و”تواضروس” استقبال نائب “ترامب” قد يرفع الخرج عن السيسي كثيرًا، حيث يظهر في الواجهة موقف القيادة الدينية القوي بديلًا عن الموقف السياسي، استغلالًا للبعد الديني في القضية، لما للقدس من مكانة روحية لدى المسلمين والمسيحيين.
وهكذا يعزز السيسي من هذا البعد بل يحصر مواجهة قرار “ترامب” عليه، دون مواجهات في ميادين أخرى بعد موقف سياسي وُصف بالباهت، لا يرقى لتطلعات الفلسطينيين والشعوب العربية والإسلامية من مصر.
هدف آخر ربما يكمن وراء هذا الدور المرسوم، يتمثل في تخفيف الضغط الشعبي على السيسي الذي تحاصره الأزمات من ناحية، وانعكاساته على تحركات احتجاجية غاضبة من ناحية أخرى.
اضف تعليقا