- هل تتحدى إثيوبيا السيسي أم تستخف به؟
بعد التصريحات شديدة اللهجة التي تحدث بها قائد الانقلاب في مصر، عبد الفتاح السيسي، الثلاثاء الماضي، والتي لوّح فيها ضمنيًا بإمكانية استخدام الحل العسكري إذا مُسّت قطرة مياه من حصة مصر المائية، بهدف تسوية النزاع مع إثيوبيا، أو إجبارها على القبول بالوساطات والحلول التي تقترحها مصر والسودان.
خرج السفير الإثيوبي لدى القاهرة، ماركوس تيكيلي، أمس الأربعاء، ليؤكد أن بلاده تتمسك باستئناف المفاوضات مع مصر والسودان بشأن أزمة سد النهضة، وأشار السفير إلى أن التفاوض بين الأطراف الثلاثة سيُستأنف قريبًا برعاية الاتحاد الإفريقي، ومشددًا على التزام بلاده بالتفاوض وفق الحلول السلمية.
حيث صرح تيكيلي: “نتفاوض برعاية الاتحاد الأفريقي، والمفاوضات ستستأنف قريباً، ونحاول الوصول إلى اتفاق مرضٍ لجميع الأطراف”. وأوضح أنه “لم يتم التواصل مع إثيوبيا رسمياً بعد بشأن لجنة الوساطة الرباعية التي توافقت عليها مصر والسودان، وسمعنا عن اللجنة من الإعلام”.
بدا هذا الكلام للكثيرين تهدئة من إثيوبيا إثر تهديدات السيسي، لكن إثيوبيا عمليًا بدأت -في ذات اليوم الذي تحدث فيه السيسي- بدء عمليات قطع أشجار الغابات المحيطة بسد النهضة، تهيئة واستعدادًا للملء الثاني الذي تصر إثيوبيا على أن يكون في يوليو/ تموز القادم.
وبالتالي، فإن الواقع العملي يعني أن إثيوبيا لم تقدم -حتى اللحظة- أي بوادر عملية حقيقية لأي حلحلة أو تنازل، ما يعني أن تهديدات السيسي لم تؤت أكلها -حتى الآن- على المستوى المنظور.
فهل تتحدى إثيوبيا السيسي أم تستخف بتهديداته؟
- لهجة مستكينة على طول الخط..
من المهم في هذا الإطار الأخذ بالاعتبار أن السيسي ظل طيلة السنوات الماضية متعمدًا طمأنة الإثيوبيين، نافيًا مرارًا وتكرارًا نية اللجوء للحلول العسكرية.
وكانت هذه اللهجة حاضرةً حتى في أسوأ مراحل التفاوض مع الجانب الإثيوبي، والتي كان من بينها على سبيل المثال رفض أديس أبابا التوقيع على صيغة الاتفاق النهائي المنبثقة عن مفاوضات رعتها واشنطن في مارس/ آذار 2020، وكذلك الرفض الإثيوبي التوصل لاتفاق النهائي قبل أن تقْدِم على الملء الأول للسد، وكذلك استمرت هذه اللهجةُ طاغيةً حتى بعد الملء الأول للسد رغمًا عن مصر والسودان.
وكذا استمرت رغم تراجع رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، عن تعهداته أمام اجتماعات القمم الإفريقية المصغرة التي عقدت في النصف الثاني من عام 2020، وكذلك مطالبته فيما بعد بتقسيم جديد لحصص الدول في مياه النيل، ثم التعطيل المتعمد المتكرر للمفاوضات بين الفينة والأخرى، وآخرها منذ نوفمبر/ تشرين الثاني حتى الآن.
إذن، فالسيسي كان مصرًا على لهجة محددة رغم وجود كل العوامل التي كان من المفترض أن تثنيه عن تبني تلك اللهجة وحدها.
- ما الذي دفع السيسي إلى تغيير نبرة حديثه؟
وهنا يتبدى السؤال؛ ما الذي دفع السيسي -الآن- إلى تغيير نبرة حديثه؟ ما الدوافع التي ساهمت في تغيير لهجته؟
من الممكن إجمال أهم الدوافع التي -في تصور التقرير- جعلت السيسي يرسل هذه التهديدات الغاضبة في نقطتين رئيسيتين؛ نوردها في نقاط آتية.
لكن قبل أن ندلف إلى تفصيلها، من الضروري إدراك أن تهديدات السيسي لم يكن مقصودًا بها الإثيوبيون وحدهم، لكنها تهدف في الوقت ذاته إلى إزعاج القوى الدولية والإقليمية الكبرى من احتمال الحرب والتأثير على مصالحها في المنطقة، وبالتالي دفعها إلى التدخل الجاد لتسوية هذه الأزمة. وبإدراك هذا البُعد، ندلف من خلاله إلى الدوافع وتفصيلاتها.
- إمارات الشر تطعن مصر من الظهر..
أما النقطة الأولى فمتعلقة بتأكد الأجهزة المصرية من أن دولًا عربية بعينها تعمل على تبريد الأوضاع دون الوصول إلى اتفاق ملزم لجميع الأطراف، وهو ما يصب في النهاية لصالح إثيوبيا، لا مصر.
وعلى رأس هذه الدول بطبيعة الحال إمارات الشر، وهي التي تحاول حاليًا إقناع مصر والسودان بحلول فنية غير جذرية، تؤول في نهايتها إلى أن تملأ إثيوبيا السد للمرة الثانية. كما أنها تسعى حاليًا لتهدئة التوتر بين السودان وإثيوبيا، مما يصعب من مهمة مصر في التحشيد مع السودان بشكل قوي ضد إثيوبيا.
والخلافات المكتومة بين القاهرة وأبو ظبي خلفياتها كثيرة وأبعادها متشعبة، وتحتاج إلى أوراق بذاتها، لكن نكتفي هنا بالإشارة إلى أن نارًا تحت الرماد بين البلدين، بسبب السياسات الإماراتية التي لا تضع المصلحة المصرية في الاعتبار؛ في الملف الليبي، وفي ملف سد النهضة، وفي ملف التطبيع مع الكيان الصهيوني والسعي عمليًا للإضرار بقناة السويس المصرية.
لا شك أن الإمارات تحاول أن تتجاوز هذا التوتر أو تحتويه بواسطة أدواتها الإعلامية الدعائية التي تروج لصالح السيسي وإنجازاته. لكن السياسات الفعلية على الأرض لا تسير في نفس الاتجاه.
ومن أهم النماذج التي تدلل بشكل واضح على ازدواجية الإمارات في التعاطي مع مصر، هو بيان وزارة الخارجية الإماراتية، أمس الأربعاء.
فبينما أفرد البيانُ قسمًا للتهنئة بإنهاء أزمة السفينة التي جنحت في قناة السويس الأسبوع الفائت، امتنعت الإمارات عن إعلان دعمها لمصر في قضية سد النهضة، لكنها حاولت الظهور بدور حيادي، حيث دعت إلى “استئناف الحوار الدبلوماسي البنّاء والمفاوضات المثمرة والالتزام بالقوانين الدولية، وصولاً إلى حلّ يلبي مصالح جميع الأطراف”.
وبينما تتخذ الإمارات هذا الموقف، تقوم دول عربية أخرى، على رأسها السعودية، بإعلان دعمها الواضح لموقف القاهرة في سد النهضة، وإعلان أن “الأمن المائي للقاهرة والخرطوم جزء لا يتجزأ من الأمن العربي”.
وبذا يتبدى موقف الإمارات بشكل واضح ويتمايز عن بقية الدول الحليفة لمصر.
وبناء على ذلك، التهديد بالتدخل العسكري لن يؤدي فقط لإحراج الإمارات وغيرها من حلفاء السيسي العرب واختبار جديتهم في دعم مصر، لكن من شأنه أيضًا -وفقًا لهذا التحليل من وجهة نظر النظام المصري- أن يقلق “أبو ظبي كذلك على مصالحها الاقتصادية في إثيوبيا.
- موقف الولايات المتحدة وأوروبا..
أما النقطة الثانية، فمتمثلة في مواقف الدول الغربية، حيث الفتور الأمريكي الواضح والتلكؤ الأوروبي تجاه الاستجابة لمقترح آلية الوساطة الرباعية أو التحرك الجاد لتسوية الأزمة.
فالإدارة الأمريكية الجديدة لم تحسم أمرها بعد في كيفية التدخل في الأزمة، كما أن هناك إشارات غير إيجابية بالنسبة للسيسي أرسلتها الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها إلغاء قرار الرئيس السابق دونالد ترامب بتعليق المعونة الأمريكية لإثيوبيا على التوافق مع مصر في ملف سد النهضة. وحتى اللحظة، يبدو الموقف الأمريكي مائلًا تجاه إبقاء الوضع على ما هو عليه، وقصر جهودها على الحيلولة دون تطور النزاع إلى مواجهة عسكرية بين القاهرة وأديس أبابا. لكن الأكيد أن إدارة جو بايدن لن تمنح أفضلية مجانية لمصر، لا سيما في ظل وجود خلافات كبيرة بين الطرفين على أكثر من صعيد وفي أكثر من ملف.
أما الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة فلديهما مخاوف متعلقة باحتمالية نشوء حساسيات مع الاتحاد الإفريقي، بسبب اختلاف الاتجاهات الفنية بين الأطراف الممختلفة، وهو ما أبداه خبراء الاتحاد بالفعل خلال الجلسات الأخيرة من المفاوضات قبل تعثرها نهاية العام الماضي.
وبالتالي، يتخيل السيسي أن وضع الحل العسكري على الطاولة والتهديد به سيجبر الولايات المتحدة والأوروبيين على التحرك خوفًا على مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة.
لكن يبقى السؤال؛ هل سيستطيع السيسي -باستراتيجيته الجديدة- الحفاظ على موارد مصر المائية كاملة كما وعد؟ وهو ما ستجيب عنه الأيام القادمة.
اقرأ أيضًا: مصر في عهد العسكر.. فساد وإهمال وغياب للمحاسبة
اضف تعليقا