في عام 680 من بداية التاريخ الميلادي، أي بعد أقل من 50 عاما من وفاة النبي “محمد” صلى الله عليه وسلم، تم نشر جيش مكون من أكثر من 30 ألف رجل من قبل الخليفة الأموي “يزيد”، البالغ من العمر آنذاك 33 عاما، لمواجهة مجموعة صغيرة من 72 شخصا بقيادة حفيد النبي، “الحسين بن علي” رضي الله عنه، الذي تحدى شرعية الحكم الأموي الوراثي باعتباره غير إسلامي.
وفي المعركة التي نشبت في “كربلاء”، على ضفاف نهر الفرات في العراق الحديث، تم قتل “الحسين” ورفاقه حتى آخر رجل. وبعد المعركة، تم اقتياد أقاربه الذين ينتمون إلى آل بيت النبي وأطفالهم إلى الأسر إلى دمشق، عاصمة الخلافة الأموية.
وكان هذا هو الحدث الأساسي في تاريخ الإسلام المبكر الذي أدى إلى توطيد الهوية السياسية للشيعة الموالين لـ “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه، صهر النبي، ووالد “الحسين”، ورابع الخلفاء الراشدين. والآن، بعد وفاته، يعتبره الشيعة أول إمام لهم.
وظهرت الاختلافات اللاهوتية بين الشيعة وأولئك الذين أيدوا شرعية الخلافة الأموية خلال القرون التالية. ومن الواضح أن الانقسام الديني تبع الانشقاق السياسي، وليس العكس كما هو شائع.
ويظهر الآن الوريث السياسي لـ”يزيد بن معاوية”، وهو “محمد بن سلمان”، ولي عهد المملكة العربية السعودية، الذي يبلغ من العمر هو الآخر 33 عاما. ويبدو أنه يشجع قتال الشيعة في الشرق الأوسط حتى النهاية، تماما كما فعل “يزيد” عام 680 من الميلاد.
ومع الأخذ في الاعتبار ميزان القوى في المنطقة، وخاصة بين السعودية وإيران، اختار “بن سلمان” القوة الشيعية الرائدة، “حزب الله” اللبناني، كهدفٍ أول له.
ويبدو أنه عازم على تكرار قصة “كربلاء” عبر تدمير “حزب الله”، وهو كيان عسكري ضعيف الإمكانات مقارنةً بالقوة المسلحة للمملكة العربية السعودية في مشهد يماثل قوة رفاق “الحسين” الصغيرة التي دمرها “يزيد” في القرن السابع.
أوهام الهيمنة
ولم يكن احتجاز الرياض القسري لرئيس الوزراء اللبناني السابق، “سعد الحريري”، سوى الطلقة الأولى في هذه المعركة. وكانت جريمة “الحريري” الرئيسية في نظر السعوديين هي أنه بينما كان يحصل على التمويل من قبل الرياض، فقد قبل “حزب الله” كجزء من حكومة وحدة وطنية في لبنان.
وقد فعل “الحريري” ذلك من أجل التقليل من العداء الطائفي الذي كان ينمو مرة أخرى في البلاد بفضل الصبغة الطائفية للحرب الأهلية في سوريا المجاورة، ومشاركة “حزب الله” في هذا الصراع إلى جانب نظام “الأسد”.
علاوة على ذلك، كان من شأن استبعاد “حزب الله” من الحكومة أن يجعل لبنان في مواجهة القوة العسكرية لـ “حزب الله”، وهي قوة ضئيلة مقارنة بالقوة العسكرية للمملكة لكنه قوة كبرى مقارنة بالجيش اللبناني المحدود. وكان من شأن استبعاد “حزب الله” أن يزيد من التوتر السياسي بين صفوف الشيعة اللبنانيين الذين يشكلون نسبة أقل بقليل من نصف سكان البلاد.
ويعتبر النظام السعودي “حزب الله” وكيلا لعدوه الحقيقي، إيران، التي تخوض معه منافسة على الهيمنة في الخليج العربي. ويعد هدف “بن سلمان” الفعلي هو تخفيض حجم نفوذ إيران، وجعلها تقبل الهيمنة السعودية في الخليج العربي.
وتماما كما كان يُنظر إلى رفض “الحسين” قبول سلطة “يزيد” على أنه تحدٍ لشرعية الأخير الدينية والسياسية في القرن السابع، يشعر “آل سعود” الوهابيون اليوم بأن شرعيتهم الدينية على المحك طالما أن إيران، الدولة الشيعية الرائدة، التي تقدم نفسها كدولة إسلامية نموذجية، ترفض قبولهم كقوة سائدة في الخليج العربي وراع حصري للإسلام.
وكما كان الحال في القرن السابع، أصبحت قضايا القوة السياسية والشرعية الدينية متشابكة بشكل لا ينفصم في ظل التنافس السعودي الإيراني.
ومع ذلك، هناك فرق واحد كبير. فإيران قوة رئيسية في حد ذاتها، تمتلك أسلحة ذات قدرات نووية محتملة، وليست فريق صغير يضم بضع عشرات كما كان أتباع “الحسين”.
علاوة على ذلك، على الرغم من أن احتياطي النفط في السعودية يمثل خُمس احتياطي العالم، ويمكنها أن تفوق إيران اقتصاديا عدة مرات على المدى القصير، فإن محاولاتها الأخيرة لشراء النفوذ في المنطقة قد انتهت بالفشل. وتشمل هذه الإخفاقات دعمها للمعارضين الإسلاميين السنة للنظام السوري، حيث تم القضاء عليهم تقريبا من قبل قوات “الأسد” المدعومة من إيران وروسيا.
وأيضا، لم تنجح محاولة السعودية لعزل قطر الصغيرة وحصارها، وبدلا من ذلك فإنها أجبرت قطر على التقارب مع إيران.
وفوق كل ذلك، فشل القصف العشوائي السعودي على اليمن فشلا ذريعا. وكانت حملة القصف تهدف إلى تقويض الحوثيين، وهم شيعة زيديون على خلاف مع شيعة إيران، بعد استيلائهم بالقوة على الحكومة في اليمن.
وألحق القصف السعودي المدعوم من الولايات المتحدة آلاما لا توصف بالشعب اليمني، دون التأثير على سيطرة الحوثيين على جزء كبير من البلاد. وأخيرا، على الرغم من إنفاق الموارد الهائلة، لم تتمكن المملكة من تجنيد حلفاء موالين على المدى الطويل في المنطقة، سواءً ممن يرتبطون بها أيديولوجيا، أو عن طريق قوتها الناعمة.
وجاءت محاولات المملكة تصدير أيديولوجيتها الوهابية، في الواقع، بنتائج عكسية، وعرضت المملكة لمزيد من المخاطر. وتحولت الأذرع الراديكالية لأيديولوجيتها السياسية والدينية المتطرفة، مثل تنظيم “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، إلى أعداء خطرين للرياض، لأنهم يعتبرونها منافقة للغاية، وغير إسلامية بدرجة كافية. وقد تتمكن المملكة من شراء الدعم مؤقتا عبر إنفاق مبالغ ضخمة من المال، لكن قوتها الناعمة لا تُذكر، إن لم تكن غائبة تماما، في المنطقة.
الهيمنة الإيرانية
ومن ناحية أخرى، يمكن لإيران أن تفتخر بسجل ناجح في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، على الرغم من مواجهة عقوبات اقتصادية صارمة، ورغم الجهود المتضافرة من قبل القوى الكبرى للحد من انتشارها الإقليمي
ولنفوذ طهران في العراق أهمية قصوى حيث تشكل الميليشيات الشيعية، التي دربها الحرس الثوري الإيراني، جزءا لا يتجزأ من جهود العراق لهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، ويفوق تأثيرها السياسي على الحكومة العراقية بكثير تأثير الولايات المتحدة، على الرغم من وجود القوات الأمريكية في البلاد منذ أعوام.
ويسترجع نظام “الأسد”، المدعوم من إيران، الاراضي بسرعة من قوات المعارضة وينمو نفوذ إيران في لبنان من خلال حليفها “حزب الله”، الأمر الذي جعل السعوديين متوترين للغاية كما ظهر في تحرك الرياض مع “الحريري”.
وتشير التقارير إلى أن السيطرة على المناطق المتجاورة في العراق وسوريا ولبنان من قبل القوات المتحالفة مع طهران، وبالتالي توفير ممر آمن لإسقاط القوة الإيرانية في بلاد الشام في المستقبل، يحوّل بشكل متزايد فكرة “الهلال الشيعي” إلى نبوءة محققة.
ويكمن تحالف إيران مع “حزب الله”، ودعمه الثابت للأهداف الإيرانية في سوريا وفي أماكن أخرى، في الأساس الأيديولوجي القوى، فـ”حزب الله”، وعلى الرغم من أنه ابن سياسي للحرب الأهلية الطائفية والاحتلال الإسرائيلي للبنان في الثمانينيات، فإنه يعد في الوقت نفسه فرعا أيديولوجيا للخمينية يجمع بين العقائد الدينية الشيعية والحماسة الثورية.
ومع ذلك، يكمن نجاح التحالف في حقيقة أن طهران لا تحاول السيطرة على كل تحركات “حزب الله”. فحزب الله ممثلٌ لبناني مستقل يعمل جنبا إلى جنب مع إيران لأن مصالحهما تتزامن، لكنه لا يأخذ الأوامر من طهران في كل شيء. ولا تتوافق أهداف الطرفين فحسب، بل تقدم إيران دعما قويا لسياسات “حزب الله” داخل لبنان وضد (إسرائيل)، وهي سياسات تم تصميمها في الضاحية وليس في طهران.
وبالتالي، يختلف مستوى الثقة القائم بين “حزب الله” والنظام الإيراني نوعيا عما بين الرياض ومؤيديها الإقليميين. ولا تعتمد علاقات الرياض على تقارب حقيقي في الأهداف ولا تقبل السعودية وجود شخصية مستقلة لحلفائها، لكن العلاقات تقوم بالأساس على رعاية مالية في اتجاه واحد ومن جانب واحد، وطاعة لا شك فيها من الجانب الآخر.
لذا كان السعوديون يتوقعون الخضوع المطلق من جانب الآخرين في خضم الأزمة في مجلس التعاون الخليجي لكن ذلك لم يحدث. واليوم يتراجع الدعم من قبل النخبة الحاكمة في الإمارات العربية المتحدة وفي البحرين الصغيرة لسياسات النظام السعودي. ويعني هذا أيضا أن ولاء حلفاء المملكة يتلاشى بسرعة عندما تصبح الأمور صعبة.
وبالنظر إلى هذه المجموعة من الأسباب، فمن غير الواقعي أن يتوقع “بن سلمان” ورجاله أن تستسلم إيران للطموحات السعودية فيما يتعلق بالخليج العربي والشرق الأوسط الكبير. وقد تأتي محاولة النظام السعودي لتصوير تنافسه مع إيران كتنافس بين السنة والشيعية بنتائج عكسية.
فقد تقربت تركيا، الدولة السنية الأكثر أهمية من غير العرب، من إيران بشكل كبير، مقارنةً بما كان عليه الأمر قبل اندلاع أزمة قطر. ويمكن قراءة انشقاق قطر السنية عن المعسكر السعودي كإشارة إلى التطورات القادمة في منطقة الخليج.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن قطر هي الدولة الوهابية الوحيدة خلاف السعودية، وبالتالي، كان من المتوقع أن تظهر تقاربا أيديولوجيا أكبر مع جارتها الأكبر. ويبدو أن عُمان، التي تربطها بالفعل علاقات جيدة بطهران، هي المنشق المحتمل القادم عن المدار السعودي، مع الكويت، التي يتراوح عدد الشيعة فيها بين 30 إلى 40% من السكان.
ومن المرجح أن تؤدي هذه التطورات إلى زيادة عدوانية “بن سلمان” تجاه إيران، وهو ما يظهر في خطابه الديني والسياسي الاستفزازي. وإذا تطورت الأمور إلى مواجهة عسكرية، فمن المحتمل أن تكون القوات السعودية، على الرغم من المعدات العسكرية المتطورة التي حصلت عليها الرياض من الولايات المتحدة وحلفائها، غير قادرة على مضاهاة الجيش الإيراني الصلب وقوات الحرس الثوري الإيراني، المعروفة بقدرتها على الارتجال في أوقات النزاع.
لهذا السبب، تسعى الرياض إلى تصدير صراعها مع “حزب الله” وإيران إلى الولايات المتحدة، كجزء من المواجهة المستمرة بين إدارة “ترامب” وطهران، وبالتالي جذب واشنطن إلى حرب مباشرة مع طهران. بعبارة أخرى، كما يشير أحد المحللين، تريد الرياض محاربة إيران حتى آخر أمريكي.
ومن المرجح أن تأتي الخطوة الأخيرة للمملكة المتمثلة في بناء جبهة مشتركة مع (إسرائيل) لمواجهة إيران كعدو مشترك بنتائج عكسية أيضا، لأنها ستؤدي إلى تآكل شرعية ادعاءات المملكة بالزعامة في العالمين العربي والإسلامي.
وما لم يبدأ “بن سلمان” في إظهار قدر أكبر من الحذر السياسي قريبا، فإن تصرفاته الطائشة وخطابه المتهور سوف تتحول إلى هزيمة ذاتية، وقد يجر المنطقة بأكملها إلى حريق كبير.
وقد تندلع بالفعل معركة “كربلاء” الثانية بين “السعودية” و”الشيعة” التي يبدو أن “بن سلمان” عازم على إطلاقها، لكن من المحتمل أن يكون الطرف الفائز هذه المرة مختلفا عن المعركة الأولى.
اضف تعليقا