يربط مضيق “هرمز” غالبية سكان العالم الذين يعيشون على طول شواطئ آسيا وشرق أفريقيا بقلب الشرق الأوسط. وقبل فترة طويلة من اكتشاف النفط، كان المضيق بمثابة “الشريان السباتي” بالنسبة للعالم. ويمر 90% من النفط المصدر من الخليج، أي نحو 20% من إمدادات العالم، عبر مضيق “هرمز”. ويتسم الشحن عبر المضيق، الذي يبلغ عرضه 21 ميلا بحريا في أضيق نقطة له، بالكثافة والكثير من المخاطر. وفي “مسندم”، المحافظة العمانية التي تقع على الجانب الجنوبي من المضيق، يمكنك سماع موجات الراديو الفارسي من إيران كما تسمع الإذاعات باللغة العربية تماما. وعلى طول الشواطئ الصخرية، تنتشر الجزر وأشباه الجزر في الأفق. وتجعل الحرارة والرطوبة والرياح الحارقة المناخ غير مضياف، ورغم ذلك لا تزال العديد من سلاسل الجبال والوديان القريبة من “هرمز” مأهولة بالسكان.
وعلى الرغم من أن بلاد فارس حاولت ادعاء أحقيتها بالمضيق، إلا أن أي مجموعة لم تسيطر وحدها على مضيق “هرمز” بشكل كامل. وفي “مسندم”، حافظت مجموعات السكان في المرتفعات الجبلية، والصيادون الظهوريون (قبيلة عمانية) تاريخيا على بعض الاستقلال الذاتي عن مسقط. وعلى الجانب الفارسي الشمالي، تتمركز سفن النفط الإيرانية في مرفأ جزيرة “لارك” في المضيق، بعد أن هاجم العراق في السابق منشأتها في جزيرة “خرج” داخل الخليج. ويسكن “لارك”، وهرمز، وجزيرة “قشم”، وساحل الخليج الفارسي في إيران، مزيج من الفرس والمتحدثين باللغة العربية السنة الذين هاجروا إلى هناك من شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الحدود البحرية الدولية، والذين يختلفون عن غالبية السكان في إيران. وكانت هناك مشكلة طويلة لإيران تختمر في التلال، حيث يسكن “البلوش” الجبال القريبة، وقد شنت حركة “جند الله”، وهي حركة سنية بلوشية انفصالية، هجمات مميتة ضد إيران، بما في ذلك قتل 15 من أعضاء الحرس الثوري الإسلامي في تفجير عام 2009. ولا يتفوق على التنوع على الأرض إلا العدد الهائل المتنوع من السفن التي تمر عبر المضيق. ومن دون قوة واحدة تسيطر على المضيق، من مصلحة الولايات المتحدة، باعتبارها القوة البحرية الأهم في العالم، أن تكون الضامن النهائي للتجارة عبر “هرمز”.
دروس التاريخ
ومن الناحية التاريخية، كان هذا يعني منع الأمور حول المضيق من الخروج عن السيطرة. وفي عام 1987، تدخلت الولايات المتحدة في الحرب العراقية الإيرانية لمنع الهجمات على السفن الكويتية. وفي عام 1988، أغرقت الولايات المتحدة السفن الحربية الإيرانية وقوارب الدوريات خلال ما يسمى حرب الناقلات. وبعد بضعة أعوام فقط، بدأت الولايات المتحدة حرب الخليج الأولى لمنع العراق من الاستيلاء على الكويت. وتعلمت إيران من هذا التاريخ أن أكثر الاستراتيجيات فاعلية في محاولتها للحصول على وضع تفاوضي أفضل والسعي لإنهاء العقوبات المعطلة للاقتصاد ليس عبر الدخول في صراع صريح، بل عبر التصرف بحنكة. وقد بدأت بإرسال سفن صغيرة وخفيفة الوزن لمضايقة ومهاجمة الناقلات الضخمة وسفن الحاويات.
وتعد المخاطر في المضيق اليوم أعلى بكثير مما كانت عليه في الثمانينيات والتسعينيات، حيث يمكن أن تؤدي المواجهات حول النقل البحري إلى حرب شاملة بين إيران والولايات المتحدة، حرب قد تتحول إلى استخدام الأسلحة النووية. ولكن بدلا من ضمان أمن المنطقة، سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق فوائد قصيرة الأجل، حيث باعت الأسلحة لشركائها الخليجيين، واتخذت جانبا في خلافات بين دول الخليج كانت غير مثمرة إلى حد كبير، مما دفع شركاء مثل قطر نحو إيران، وسمحت للسعوديين باقتحام الكثير من المخاطر، مثل التدخل في الحرب الأهلية اليمنية.
وقد يكون أحد أسباب هذه الانتهازية المزعزعة للاستقرار هو الافتراض الخاطئ من قبل صانعي السياسة في الولايات المتحدة بأن عقيدة “كارتر”، التي تعهدت بموجبها الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية لحماية مصالحها في الخليج، لم تعد سارية مع المعطيات الحالية. وتستهلك الولايات المتحدة كميات أقل من النفط من الشرق الأوسط اليوم، وهو ما يدفع الإدارة للاعتقاد في عدم الحاجة إلى ضمان أمن المنطقة كما كان عليه الأمر في السابق.
ومع ذلك، يسيء هذا التوجه فهم كل من التاريخ والعوامل الجيوسياسية. وتعتمد الولايات المتحدة على أمن الخليج أكثر من النفط. فمن ناحية، هناك الاحتمال المتزايد لاندلاع صراع نووي، حيث بدأت إيران بسرعة في تخصيب اليورانيوم بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، في الوقت الذي أصبحت فيه كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أكثر اهتماما بالحصول على التكنولوجيا النووية، ويتمتعان بوصول أفضل إليها. ومن ناحية أخرى، هناك النمو الملحوظ في كمية التجارة العالمية التي تمر عبر “هرمز” والذي تزامن مع صعود دول النفط الغنية على طول الخليج. وأخيرا تأتي استثمارات الولايات المتحدة الكبرى في القواعد البحرية والجوية في البحرين وقطر وأماكن أخرى، والتي لا يمكن الوصول إليها عن طريق البحر إلا عبر “هرمز”. ونتيجة لذلك، سيظل مضيق “هرمز” نقطة التجارة البحرية الأكثر قيمة والأكثر هشاشة في العالم، بغض النظر عن مقدار انخفاض أسعار النفط.
الالتزام الحتمي
ويصعب على الكثير من الأمريكيين قبول استمرار التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة. وبالنظر إلى عدد الأرواح ومقدار الأموال التي ضحت بها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يريد الكثير من الأمريكيين من اليمين واليسار التخلي عن المنطقة بالكامل. ولكن بغض النظر عن مقدار استخراج النفط من المنتجين الأمريكيين والكنديين، ستظل الولايات المتحدة في مأزق إذا لم يكن الأمن مضمونا في الخليج. ولا يمكن لنظام التجارة العالمي الذي يعتمد عليه الرخاء الأمريكي أن يعمل بدون المرور الآمن للسفن عبر مضيق هرمز، مع الحاجة لمنع أي تصعيد نووي في المنطقة.
لذلك، لا تزال “عقيدة كارتر” ضرورية، رغم أنها غير مثالية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لديها أقوى جيش في المنطقة، إلا أنها في كثير من الأحيان لا تأخذ في الاعتبار الجغرافيا البشرية المعقدة للمضيق. وعلى عكس المملكة المتحدة، التي قامت بتأمين طرق التجارة الخليجية من عام 1820 إلى عام 1970، لا تقيم الولايات المتحدة علاقات عميقة مع الجهات الفاعلة من غير الدول. وينطبق هذا على جانبي المضيق.
وفي الجنوب، كانت عمان، “سويسرا الخليج”، بمثابة وسيط حاسم بين الولايات المتحدة والسعودية وإيران. لكن السلطان الحالي، “قابوس بن سعيد”، يبلغ من العمر 78 عاما، وليس له خليفة واضح. وكان البريطانيون قد احتفظوا بمحطة “تلغراف” في “مسندم”، ولا تزال شبه الجزيرة نقطة اتصال جيدة لعمان، والتي من المحتمل أن تشاركها مع الحلفاء، بما في ذلك الولايات المتحدة. ومن الحكمة أن تفهم واشنطن الديناميكيات السياسية والاجتماعية المعقدة لشبه جزيرة “مسندم” بشكل أفضل، في حالة عدم وجود انتقال سلس بعد وفاة السلطان “قابوس”. ومن المحتمل حينها – رغم أنه غ ير مرجح -أن تبدأ العديد من الفصائل والجماعات داخل سلطنة عمان و”مسندم” في تأكيد نوع من الاستقلال الذاتي، إذا أدى الانتقال إلى اضطراب. ويمكن لواشنطن أن تستعد لفترة ما بعد “قابوس” عبر دعم شركاء التفاوض المحتملين الآخرين، مثل الكويت، والموافقة على دعم خليفة “قابوس” إذا وافق على مواصلة سياسات السلطان الحالية تجاه المضيق. ولن يتم استبدال قيادة “قابوس” المستقرة والحكيمة بسهولة، ولا ينبغي لواشنطن أن تأخذ ذلك كأمر مسلم به.
وفيما يتعلق بالجانب الإيراني الشمالي من المضيق، ينبغي على الولايات المتحدة تطوير فهم أكثر دقة للفصائل هناك، والتوترات الكثيرة التي تقسم إيران. وقد تدفع السياسات الأمريكية تجاه الشعب الإيراني أولئك الذين يعارضون النظام لإظهار المزيد من الدعم له. وهناك العديد من حالات التهديدات الأجنبية، مثل الحرب بين إيران والعراق، التي ساعدت على ترسيخ حكم “آيات الله” دافعة مختلف الإيرانيين للاتحاد ضد المعتدين الخارجيين. وقد تؤدي مهاجمة إيران على طول ساحل الخليج، أو في قاعدة جزيرة “لارك” العسكرية ومحطة النفط، حيث يعيش ويعمل مزيج من الإيرانيين العرب والفرس، إلى تحويل المعارضين المحتملين على السواحل إلى مؤيدين لطهران.
وليس للولايات المتحدة اهتمام كبير بتكرار دور الإمبراطورية البريطانية، أو لعب دور الحماية بالشكل الذي فعلته بريطانيا مع دول الخليج ابتداء من عام 1853 وحتى السبعينيات. ولكن لديها كل المصلحة في الاستمرار، مع شركائها، في دور لعب الحكم أو الوسيط. ويعني تاريخ الولايات المتحدة المتوتر مع إيران أن واشنطن لن تكون حكما محايدا في أعين الجميع في المنطقة. ولكن لا يمكن لأي قوة أخرى أن تبقي مضيق “هرمز” بعيدا عن أي تدخل، ولا تتمتع أي قوة أخرى بالقدرة على منع اللعبة من الخروج عن السيطرة، وبدون حكم محايد، قد يتحول الأمر بسرعة إلى حروب لا يريدها أحد.
ويشترك معظم اللاعبين في الخليج، من قطر إلى السعودية إلى إيران، في الرغبة في منع اللعبة من الخروج عن نطاق السيطرة. وعلى الرغم من العقوبات الصارمة، تعلم إيران تعلم أنها لن تستفيد من الحرب. لهذا السبب، نفت طهران في كثير من الأحيان بشدة مسؤوليتها عن الهجمات الأخيرة على الملاحة غرب المضيق. ومع ذلك، لا يكفي الاعتماد على الرغبة في التراجع عن التصعيد في اللحظة الأخيرة -كما فعل الرئيس “دونالد ترامب” عندما ألغى هجوما على إيران كان معدا كرد فعل لإسقاط إيران طائرة أمريكية بدون طيار- بل يحتاج مضيق “هرمز” إلى ضامن ثابت للأمن، حتى وإن لم يكن مثاليا.
المصدر | فورين أفيرز
اضف تعليقا