لا يمكن إنكار التناقض الشديد بين نادي “نيوكاسل” الإنجليزي والمملكة العربية السعودية بعاداتها وتقاليدها المختلفة تماماً عن المجتمع الإنجليزي الذي من الصعب أن نجد نسائه يرتدين الملابس السوداء من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين كنساء السعودية، حتى في درجات الحرارة الأشد برودة، لا يمكن توقع ذاك من النساء في بريطانيا.
وبصرف النظر عن ذلك وعن سمعة محمد بن سلمان الملطخة بدماء خاشقجي وغيره من الجرائم الأخرى، فإنه لا توجد قواسم مشتركة بينه وبين نيوكاسل وجمهوره، فلماذا يتمسك بأن يندمج معهم؟
لم يظهر محمد بن سلمان اهتماماً بشراء نادي “نيوكاسل” الإنجليزي من فرط حبه في كرة القدم، اللعبة الشعبية الأولى في العالم، ولكن رأى البعض أنها فرصة جيدة لتحسين صورته وسمعته التي تلوثت بسبب قمعه لحرية التعبير في بلاده، خاصة وأن هذه الصفقة ستكون في بلاد غريبة، يظن أن سمعته هناك لن تؤثر على انخراطه بينهم.
بعض المحللين والخبراء رأوا أن لابن سلمان ثلاث أهداف رئيسية لتمسكه بشراء النادي الجماهيري، الأول: استخدام النادي كاستثمار شخصي له وللسعودية، والثاني: اتباع سياسة قادة دول الخليج الأخرى الذين يستخدمون كرة القدم كـ “غسيل” لصورتهم الملوثة والمشوهة بفضل أفعالهم وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان وذلك من خلال ربط أنفسهم بلعبة يحبها العالم، والثالث: استخدام أموال صندوق الاستثمار السعودي في صفقات كهذه ليسمح للحكومة السعودية باستعراض عضلاتها المالية وإثبات قوتها.
من الناحية الاقتصادية، نادي نيوكاسل الإنجليزي أكبر المستفيدين من هذه الصفقة، حيث تمتلك المملكة العربية السعودية ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، مما يجعل نيوكاسل يونايتد أغنى نادٍ في العالم، ووفقًا لأحد التقديرات، تبلغ ثروة العائلة المالكة السعودية – التي تضم حوالي 15000 فرداً – ما يصل إلى 1.4 تريليون دولار أمريكي.
من المنطقي لشخصية مثل ابن سلمان أن يرغب في الاستحواذ على “نيوكاسل” المعروف لدى جماهيره باسم Magpies”، والـ magpie أو طائر العقعق، هو طائر ماكر ذو لونين أبيض وأسود، يشبه ابن سلمان في حبه لاقتناء الأشياء الثمينة، مهما ارتفع ثمنها، ومهما كان الوصول إليها صعب، حيث يبذل في سبيل ذلك جهوداً جبارة، لا تقل قوة عن جهوده في حمايتها.
عرض ابن سلمان لشراء نادي “نيوكاسل يونايتد” حوالي 400 مليون دولار، وهو مبلغ غير كبير مقارنة بما دفعه في شراء لوحة لليوناردو دافنشي التي بلغ ثمنها 450 مليون دولار، والتي يحتفظ بها في يخت فاخر قيمته 500 مليون دولار، بالإضافة إلى امتلاكه قصر في فرنسا قيمته 300 مليون دولار -يُزعم أنه أغلى منزل في العالم-.
على الرغم من ثروته الفاحشة، التي يمكن بها شراء ما يريد، فإن محاولاته لاستخدام “نيوكاسل” لغسل سمعته قد لا تنجح بسهولة، حيث بلغت سمعة ابن سلمان السيئة حداً غير مسبوق، بالإضافة إلى سمعة المملكة العربية السعودية المعروفة بانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان بسبب معداتها العسكرية أو عاداتها وتقاليدها.
على سبيل المثال لا الحصر فيما يتعلق بانتهاكات المملكة التي لا تُعد ولا تُحصى، تقوم المملكة بشكل روتيني بإعدام عدد من الناس أكثر من أي دولة أخرى، كما تشن بحرب جوية مروعة في اليمن تسببت في المجاعة لمئات الآلاف من المواطنين، وحولت البلاد إلى خرابة مُدمرة.
بالإضافة إلى ما سبق من انتهاكات، يأتي الانتهاك الأفظع في سجل السعودية، وهو اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وهي جريمة أشارت كافة الأدلة أن ابن سلمان متورط فيها بنسبة كبيرة، هذا إلى جانب حملة القمع الوحشية التي شنها محمد بن سلمان على المعارضة الداخلية من كافة التيارات بحجة محاربة الفساد والسعي نحو “التجديد”.
كل ما سبق يجعلنا نؤكد أن الأمير لاعب رئيسي على المسرح العالمي، وكي لا تعرف شيئاً عن تاريخه الأسود يجب أن تعيش في مجتمع قبلي نائي.
الصفقة “المحتملة” للاستحواذ السعودي على “نيوكاسل يونايتد” تتولى إدارتها أماندا ستافيلي، سيدة الأعمال البريطانية التي تتخذ من دبي مقراً لها، والتي سبق وساعدت الشيخ منصور بن زايد آل نهيان على الاستحواذ على مانشستر سيتي، ويأمل ابن سلمان أن تقوم معه بنفس الدور في مهمة استحواذه على “نيوكاسل”.
في أكتوبر/تشرين الأول 2019، سافرت ستافيلي إلى “يخت” ابن سلمان للترتيب لصفقة “نيوكاسل”، وبموجب الاتفاق الذي تم التوصل إليه، فإن شركة ستافيلي الخاصة، بي سي بي بارتنرز، ستمتلك 10 في المائة من أسهم النادي، وسيمتلك الإخوة روبن- أفراد ثاني أغنى عائلة بريطانية- حصة مماثلة، في حين يحصل محمد بن سلمان على 80٪ من أسهم النادي، ليُمنح بذلك حصة “مسيطرة”.
من المقرر أن يتولى محمد بن سلمان الإدارة من رجل الأعمال مايك آشلي، الرئيس الحالي لـ “نيوكاسل يونايتد”، والذي يرغب الجماهير في رحيله عن النادي بأي ثمن كونهم يتهمونه بتدمير النادي على مدار 13 عاماً منذ تولى إدارته، كما يراه مشجعو النادي أن النادي بالنسبة له لم يكن أكثر من “شيء” يمتلكه ضمن إمبراطوريته التي يسعى دائماً للتفاخر بها.
ظاهرياً، لا يختلف محمد بن سلمان كثيراً عن آشلي فيما يتعلق بنظرته للنادي، ولكن بالنسبة لمشجعي “نيوكاسل” فهم على استعداد لقبول “الشيطان” رئيساً للنادي إذا كان هذا سيخصلهم من مايك آشلي ويعيدهم مرة أخرى لمضمار الفوز، ولعل هذا ما يفسر تغاضيهم عن سجل جرائمه ]ابن سلمان[ الفظة.
كان نجاح أندية مثل باريس سان جيرمان ومانشستر سيتي مثير للإعجاب بشكل لا يمكن إنكاره منذ أن استولت عليها دول الخليج الأخرى، حيث يسيطر باريس سان جيرمان الآن على كرة القدم الفرنسية مع فريق من أبرز النجوم، ينافس سنوياً على لقب أبطال أوروبا.
وفي الدوري الإنجليزي، يمكن القول إن مانشستر سيتي هو الآن أكبر ناد في إنجلترا، حيث سيطر الفريق على كرة القدم الإنجليزية خلال العقد الماضي وفاز بثمانية من البطولات المحلية العشر الأخيرة.
لهذا فإن مهمة ابن سلمان للفوز بدعم جماهير “نيوكاسل” صعبة، حيث إنهم يأملون في تحقيق فوز ساحق وبطولات كثيرة، خاصة وأن النادي صاحب القاعدة الجماهيرية الكبيرة لم يحقق ألقاب منذ خمسينيات القرن الماضي، لهذا لا تعارض الجماهير سعي “آل سعود” للاستحواذ على النادي لمعرفتهم الجيدة بمقدار الثروة التي تمتلكها تلك العائلة.
على صعيد آخر، العديد من الأصوات الحقوقية والدولية ترفض إتمام هذه الصفقة، وتسعى لإفسادها، معتبرة إياها مساهمة في إهدار حقوق مئات الآلاف من ضحايا انتهاكات ابن سلمان، على سبيل المثال كتبت كيت ألين، مديرة منظمة العفو الدولية في المملكة المتحدة، رسالة إلى الرئيس التنفيذي للدوري الممتاز ريتشارد ماسترز في 21 أبريل/نيسان 2020، تحثه فيها على إعادة النظر في هذه الصفقة، قائلة “ما لم يتوقف الدوري الممتاز ويبحث بجدية في حالة حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية، فإنه يخاطر بسمعته، ويعد شريكاً في عملية الخداع التي يقوم بها أولئك الذين يحاولون استغلال الرياضة لغسل سجلات حقوقهم السيئة”.
كما ناشدت “خديجة جنكيز” خطيبة الراحل جمال خاشقجي المسؤولين في الدوري الإنجليزي وتوسلت إليهم للتفكير مرة أخرى في عواقب استحواذ السعودية على “نيوكاسل يونايتد”، فمن وجهة نظرها، فإن السماح بإتمام الصفقة من شأنه أن يثبت بشكل قاطع أن محمد بن سلمان فوق القانون، وقالت “محمد بن سلمان يحاول يائساً استخدام هذه الأنواع من الصفقات لإصلاح صورته”.
في النهاية، لا تزال هناك فرصة لإلغاء الصفقة، حيث تم تعزيز “اختبار المالكين والمديرين” في الدوري الإنجليزي الممتاز في السنوات الأخيرة، في أعقاب موجة الاستثمار الصيني، وبعد أن اعترف مالك ساوثامبتون جاو جيشنغ بأنه قام برشوة المسؤولين في الماضي، تمت إضافة فقرة إلى الاختبار تتطلب من أي شخص يرغب في شراء نادٍ في الدوري الإنجليزي الممتاز الكشف عن تفاصيل جميع المعاملات المالية السابقة، ولعل هذا البند يعرقل عملية شراء ابن سلمان للنادي، والأسوأ من ذلك بالنسبة للأمير، فقرة جديدة أخرى تنص على أن الجرائم التي ترتكب في دولة أخرى، حتى لو لم تتم محاكمتها هناك، يمكن أن تكون أسبابًا لعدم الأهلية.
مع ذلك، لا يمكن الجزم بأن هذه الفقرات قد تعيق عملية الشراء، خاصة وأن المملكة العربية السعودية تعتبر حليف قوي للمملكة المتحدة، كما ستحرص الحكومة على تجنب أي زلزال دبلوماسي مع السعودية التي تُعد أكبر زبائن المملكة المتحدة في سوق الأسلحة، والتي قدرت قيمة الصفقات في السنوات الأخيرة بمليارات الدولارات.
للاطلاع على النص كاملاً من المصدر اضغط هنا
اقرأ أيضًا: بن سلمان في مأزق .. سمعة السعودية المتردية تعطل إتمام صفقة نادي نيوكاسل
اضف تعليقا