تبنت حكومة بريطانيا عام 2018 خطاباً دأب على ترديده العديد من المنظمات والجمعيات الكنسية في العالم؛ تتحدث فيه عن أن المسيحيين هم الطائفة الأكثر اضطهاداً في العالم.

وأعلن وزير الخارجية البريطاني، جيريمي هانت، في ديسمبر الماضي، أن بلاده أطلقت حملة لمراجعة مسألة اضطهاد المسيحيين حول العالم؛ “بسبب إيمانهم”، مؤكداً أن بلاده ستتبنى خطوات تمكن الحكومة من تقديم الدعم لـ”المضطهدين”.

هذا التبني الرسمي من المملكة المتحدة لمظلومية المسيحيين في العالم دفع المراقبين للتساؤل عما إذا كانت هذه المظلومية قد تجاوزت ما تعرّض له المسلمون من اضطهاد وعنف وقتل وتهجير على مدار العقود الماضية؟

وذكّر بعضهم بصمت المجتمع الدولي، ومن ضمنه بريطانيا، عن مذابح المسلمين في سربرينيتشا في البوسنة والهرسك، وصور جثث الأطفال المتناثرة في قطاع غزة، وأشلاء الأطفال العراقيين المتفحمة في ملجأ العامرية بسبب الصواريخ الحرارية الأمريكية، وأخيراً وليس آخراً جثث المئات من مسلمي الروهينغا الطافية على الأنهار الفاصلة بين ميانمار وبنغلادش، وآلاف آخرين هجروا من وطنهم مكرهين ما زالت قضيتهم بلا حل.

إقرار رسمي

وبعد أن كلف وزير الخارجية البريطاني أسقف كنيسة “تورورو” البريطانية، فيليب ماونستيفن، بإعداد تقرير عن المسألة، أصدر الأخير تقريره في 4 مايو 2019، وخلص فيه إلى أن الاضطهاد الديني للمسيحيين اقترب من حد “الإبادة الجماعية”، وأن هذه الممارسة بلغت مداها، بحيث إن المسيحية تواجه خطر الاختفاء من أجزاء في الشرق الأوسط.

واستشهد التقرير بإحصائيات تشير إلى أن المسيحيين في فلسطين يمثلون 1.5٪ فقط من عدد السكان، بينما تراجع عددهم في العراق إلى 120 ألف مسيحي مقابل 1.5 مليون قبل عام 2003.

وذكر التقرير أن “الملايين من المسيحيين في المنطقة اقتُلعوا من ديارهم، حيث قُتل الكثير منهم وخطف بعضهم وسجن البعض الآخر”، مشيراً إلى ما وصفها بـ”صورة مخيفة بشأن التمييز الذي يعاني منه المسيحيون في مختلف أنحاء آسيا وشرقها، وأفريقيا جنوب الصحراء، وأن ذلك غالباً ما يتم بدعم من الأنظمة الحاكمة”.

وأضاف التقرير البريطاني أن “بلداناً مثل الجزائر ومصر والسعودية وإيران والعراق وسوريا، وصل وضع المسيحيين والأقليات الأخرى إلى مرحلة تنذر بالخطر، حيث توجد قيود صارمة على جميع أشكال الممارسات المسيحية، ومن ضمن ذلك أعمال العبادة العامة”.

وأكد أن “المسيحيين كانوا يشكلون 20٪ من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ قرن، لكن أعدادهم هبطت إلى أقل من 4٪، أو نحو 15 مليون نسمة”.

حقيقة أم مبالغات؟

وبهذا التقرير الرسمي أصبحت قضية اضطهاد المسيحيين حقيقة تتعامل معها بريطانيا وفق سياسة ستتبناها الخارجية في المرحلة المقبلة، ولا يستبعد أن تحذو دول غربية حذو بريطانيا في هذا التوجه؛ في ظل صعود التيارات اليمينية إلى الحكم في غالبية تلك الدول، بحسب محمد صالح الدجاني، أستاذ التاريخ في جامعة بيروت.

وقال الدجاني في حديثه لـ”الخليج أونلاين”: إن “اضطهاد المسيحيين أمر لا يمكن إنكاره، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، برز ذلك بعد ظهور تنظيم داعش عام 2014”.

وأضاف: إن “تصوير الاضطهاد على أنه الأصل في التعامل مع المسيحيين هو محل استنكار عندي”، مشيراً إلى أن “تصوير التقرير أن هناك تراجعاً في عدد مسيحيي فلسطين بسبب الاضطهاد مغالطة تاريخية خطيرة تكشف نوايا أخرى وراء التقرير”.

وتابع الدجاني: “مسيحيو فلسطين كانوا وما زالوا وسيبقون جزءاً من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، ومرد تراجع أعدادهم يعود إلى النكبة التي حلت بعموم الفلسطينيين عام 1948؛ جراء احتلال الأرض واقتلاع مئات القرى وتهجير ما يزيد على 700 ألف فلسطيني، المسيحيون جزء من هذه النكبة تبعاً لكونهم جزءاً من نسيج فلسطين الاجتماعي”.

وأشار أستاذ التاريخ بجامعة بيروت إلى أن “أمريكا اللاتينية التي كانت أبرز وجهات مسيحيي فلسطين بعد النكبة يعيش فيها اليوم الجيل الرابع من أبناء المهاجرين، وسمعت من راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم، متري الراهب، أن تعدادهم يقدر بنصف مليون أمريكي لاتيني من أصول مسيحية فلسطينية”، متسائلاً: “لماذا لم يذكر التقرير مسؤولية بريطانيا عن اغتراب هؤلاء واقتلاعهم من مهد المسيح والمسيحية؟!”.

وفي ذات السياق تحدث الباحث العراقي عبد الستار المشهداني عن وجود مبالغات في التقرير البريطاني فيما يخص تعداد المسيحيين في العراق.

وقال لـ”الخليج أونلاين”: إن “إحصاء السكان الذي أجري في العراق عام 1947، أظهر أن تعداد المسيحيين على اختلاف طوائفهم بلغ 149 ألف نسمة، وارتفع هذا العدد إلى 206 آلاف نسمة في إحصائية عام 1957”.

وأضاف: إن “إحصائية عام 1977 للسكان الموثّقة في الأرشيف العراقي تُظهر أن نسبة المسيحيين بلغت 2.14٪، بتعداد سكاني بلغ 256 ألف نسمة”.

وتابع المشهداني: “الإحصائيات التي أجريت في السنوات آنفة الذكر أُجريت في ظل دولة محايدة لا تحكمها الطائفية، وما حصل بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، الذي أدى لانتشار الطائفية، تسبّب بموجة تصفية وتهجير وقتل لكل الطوائف، ومن ضمنهم المسيحيون”.

وأوضح الباحث العراقي أن “توقف عملية تعداد السكان في العراق بسبب الطائفية السياسية جعل التكهنات هي التي تحكم على تعداد الطوائف والأديان، وهو ما يفتح الباب لمن يريد أن يبالغ من القيادات السياسية والاجتماعية في تعداد أتباعه أو ما يتعرضون له من مشاكل، وفي هذا الإطار برز الحديث عن الهجرة المسيحية إلى الخارج بأعداد مبالغ فيها”.

وأشار إلى أن “عدد البالغين الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات النيابية عام 2018 من المسيحيين بلع 120 ألف مصوّت، وهذا يجعل تعدادهم يقدَّر بـ650 ألف نسمة”، مؤكداً أن “اضطهاداً لحق بمسيحيي العراق بعد ظهور داعش عام 2014 أكبر بكثير من ذلك الذي لحق بهم بعد الاحتلال، وهو ما تسبب بموجة نزوح داخلي، خصوصاً باتجاه إقليم كردستان”.

ازدواجية المعايير

انتشار ظاهرة الكراهية في عموم العالم بات أمراً لافتاً في العقود الأخيرة، يدل على ذلك ازدياد شعبية الحركات المتطرفة في مختلف الأديان والجماعات القومية على اختلافها وتنوعها.

وفي أوروبا وأمريكا أصبحت الانتخابات تفرز صعوداً للحركات اليمينية القومية والدينية المتشددة، وباتت غالبية تلك الحركات في سدة الحكم، وهو ما تسبب بارتفاع ظاهرة معاداة الأجانب والإسلاموفوبيا.

غازي التكريتي، الباحث في مركز هولندا للدراسات الدولية بمدينة أمستردام، اعتبر أن التقرير البريطاني يعكس وجهاً آخر للغرب قائماً على التمييز بين الإنسان الذي يعيش في أوروبا والآخر الذي يعيش في أفريقيا، وبين المسلم والمسيحي.

وقال التكريتي لـ”الخليج أونلاين”: إن “ازدواجية المعايير في التعامل والحكم على الأحداث تحولت إلى أصل في تعامل الغرب عموماً مع الأحداث العالمية، فهدم أقدم مسجد في القارة الهندية على يد الهندوس أعمال عنف، ومنع المقدسيين من دخول الأقصى مجرد مخالفة للقرارات الدولية، بينما يتم التعاطي مع أصغر حادث عنف على أنه عمل إرهابي قام به المسلمون حتى يثبت العكس”.

وأضاف: “التقرير البريطاني تحدث عن أن أكبر نسبة عنف تعرض لها المسيحيون كانت في أفريقيا، وهذا أمر طبيعي من وجهة نظري؛ لأن الأنظمة المتسلطة في القارة السمراء تجد دعماً بلا حدود من أوروبا وأمريكا، والشواهد على ذلك كثيرة”.

وتابع التكريتي: “لكن ليس من الطبيعي أن تنتشر جرائم الكراهية في شوارع بريطانيا ضد الأقليات عموماً والمسلمين خصوصاً؛ لأنها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان”.

واستدرك بالقول: “الشرطة في إنجلترا وويلز قالت مؤخراً إن جرائم الكراهية سجلت ارتفاعاً بنسبة 40٪، مقارنة بالعام الماضي، وأكدت أنها تستهدف الناس بسبب عقائدهم وألوانهم”. مشيراً إلى أن “الإحصائيات أكدت أن 52٪ من هذه الجرائم راح ضحيتها مسلمون”.

وختم التكريتي حديثه بالقول: إن “ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا المسلمين من قبل الغرب، وصعود الحركات القومية والمسيحية اليمينية، ودعم دولة الاحتلال الإسرائيلي في تصفيتها لحقوق الفلسطينيين، كل هذه الأسباب مجتمعة سترفع من مستوى الغضب في العالم الإسلامي، وتأخذ العالم إلى نفق مظلم نهايته الحروب والمزيد من الويلات”.