موسى العتيبي – مكة المكرمة

أبحث عن المشاعر المقدسة في مكة والمدينة ولا أجدها،  لا أجد سوى حداثة وعمران وتطوير ومبان شاهقة تلتهم كل شيء يرتبط بالتاريخ القديم لمكة والمدينة.

ربما أصبح هذا الشعور وغيره مسيطرا وبقوة على كثيرين من زوار بيت الله الحرام في مكة ومسجد النبي الكريم في المدينة مؤخرا، حيث التهمت المشروعات الحديثة والتطويرات المتصاعدة التي تشرف عليها حكومات آل سعود المتعاقبة كل ما بقي من الآثار القديمة  في مكة والمدينة.

ولأن رغبة آل سعود في إظهار الحداثة والرفاهية ببلادهم تلاقت مع الفكر الوهابي المنتشر بالمملكة، والراغب في القضاء على كل ما هو أُثري خوفا من تقديسه وعبادته فقد مرت التطويرات بسلام في بلاد الحرمين ودون اعتراض من أحد، بل إنها لاقت فتاوى من كبار علماء المملكة، تبيح هدم كل ما هو أثري في سبيل توسيع الحرمين.

 

الهدم بحجة التوسعة

وفقا لمراقبين، فإن التوسعات المتعاقبة على الحرم المكي والتي غالبا ما تكون حجتها هو إتاحة المكان لأكبر عدد من المسلمين لأداء فريضة الحج، كانت السبب الرئيسي في هدم كل معالم الحرمين الشريفين، حتى تلاشت مكة والمدينة  القديمتان باستثناء أماكن محدودة.

والتوسعة الحديثة التي بدأتها السعودية عام 2012، وهي التوسعة الرابعة في تاريخ الحرم المكي منذ تأسيس الدولة السعودية، حيث كانت الأولى عام 1925، والثانية عام 1983، والثالثة عام 1988.

وعام 2012 أمر الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بالبدء في مشروع أكبر توسعة للحرم المكي، التي أوشكت على الانتهاء، ليصبح الحرم المكي أكبر من أي وقت مضى.

وتسببت تلك التوسعات في تغيير الطبيعة العمرانية والديموغرافية للمناطق المحيطة بالحرم، حيث أزيلت بعض البيوت من أجل أعمال توسعة الحرم، والتي من بينها مثلا إزالة مسجد بلال بن رباح (مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم)، والذي يعود تاريخه إلى عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

كما تم جرف البيوت العثمانية القديمة لتستبدل بأخرى حديثة، وأزيلت كذلك قلعة أجياد التي يمتد عمرها إلى أكثر من 600 عام، ومعها أكثر من 400 موقع أثري، ليبنى مكانها فندق “الساعة”!

كما مسحت المباني والمواقع ذات الأهمية الدينية والثقافية المتبقية، لتتحول منطقة الحرم المكي إلى منطقة تجارية تحتوي على عشرات المطاعم العالمية والفنادق ومراكز التسوق.

وبحسب معهد الخليج، ومقره الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أصدر دراسة عن مكة في العام 2012، فإن نحو 95% من المباني التي كان يبلغ عمرها نحو 1000 سنة في مكة قد دُمّرت خلال السنوات العشرين الماضية.

 

أعمال التوسع بالحرم المكي 

سقف مغطى فوق مكة

أعمال الحداثة والتطوير في مكة لم تتوقف عند حد التوسعة وهدم كل ما هو أثري حول الكعبة، لكن الأمر تطور إلى دراسة السلطات السعودية حاليا مشروعا لتغطية الحرم المكي بسقف مغطى.

وبحسب مانشرته صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، فإن خططاً جديدة للسعودية تتعلّق بتحديث مكة المكرمة، من خلال بناء سقف قابل للسحب فوق الكعبة، قوبلت بغضبٍ كبيرٍ؛ لكونها “ستؤدي إلى تدمير الطابع التاريخي لأقدس بقاع المسلمين”.

وكان مقطع فيديو متداول نشرته الصحيفة البريطانية، نقلاً عن مؤسسة أبحاث التراث الإسلامي، ومقرّها لندن، يظهر نموذجاً قياسياً يتم عرضه حالياً عن مكة، دون أن يصدر أي إعلان رسمي من أمير مكة المكرمة أو من السلطات السعودية.

ويهدف مشروع “المظلّة” إلى حماية الحجاج من الشمس الصحراوية الحارقة عند زيارة الكعبة.

لكن عرفان العلوي، مدير مؤسسة أبحاث التراث الإسلامي، قال إنه لا يفهم لماذا سيدمّر طابع الكعبة بهذا الشكل “وكل تراثنا كان من هذا القبيل، لا ينبغي أن تُغطّى الكعبة من فوق”.

العلوي أكد أن هناك أشياء كثيرة يمكن للسلطات في السعودية أن تفعلها لحماية الناس غير هذا السقف، أقرب مستشفى كبير يبعد أكثر من خمسة أميال عن مكة المكرمة، لماذا لا يتم بناء مستشفى قرب مكة؟ إن سجلّ السعوديين في رعاية المواقع التاريخية سيئ للغاية، إنهم يعتقدون أنهم يبتكرون في مكة، ولكن في الحقيقة إنهم يقومون بتدمير الكثير، بحسب العلوي.

بعد اقتصادي ورأس مالي

أسعار العقارات في مكة المكرمة هي الأغلى في العالم، ومن الممكن أن يصل سعر المتر بالقرب من الحرم المكي إلى أكثر من 100 ألف دولار! في حين تبلغ تكلفة الليلة في الجناح الملكي في أحد فنادق “أبراج البيت” أكثر من 5900 دولار لليلة واحدة.

يقول مراقبون إن هذه الأرقام الخرافية هي الدافع الحقيقي وراء اهتمام النظام السعودي بتحويل مكة إلى مدينة عالمية مليئة بناطحات السحاب والمباني الضخمة، حيث أن الحكومات المتعاقبة في السعودية باتت تنظر للحرمين على أنهما مصدرا دخل هامَّان للبلاد بعد أن انخفضت أسعار النفط في البلاد.

وبالنظر إلى عوائد رحلات الحج والعمرة السنوية على السعودية، يتبين أنها أضعاف ما تنفقه الحكومة السعودية على خدمات الحج والعمرة في كل عام،  ولذلك فإن التوسعات في الحرمين أصبحت بالنسبة للنظام السعودي مصدرا من مصادر الدخل التي يجب أن لا تتوقف عنه، مها أثرت تلك التوسعات على المنشآت التاريخية والآثار الإسلامية.

وترفض السعودية سنويا الإعلان عن صافي الأرباح العائدة عليها وعلى منشآتها من موسم الحج في كل عام، لكنها فقط تعلن عن “نفقات الحجاج (من الداخل والخارج)، حيث أعلنت أن نفقات الحج خلال العام الحالي تتراوح ما بين 20 إلى 26 مليار ريال سعودي ما يعادل حوالي  5.33 إلى 6.67 مليارات دولار.

لكن ولأنها ترغب في اجتذاب الربح الوفير من الحرمين عملت السعودية على بناء فنادق باهظة مزخرفة في مكة والمدينة، وطوقت الحرم المكي بمتجر تسوق ضخم، مليء بسلع استهلاكية كثيرة، وبه ماركات عالمية كبيرة، وسلاسل مطاعم الوجبات السريعة، وهدمت معظم مدينة مكة التاريخية، لتفسح المجال أمام هذه المتاجر والفنادق.

وبسبب التوسع في بناء الفنادق تعتبر مكة المكرمة ثاني أعلى مدينة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا من حيث عدد الغرف الفندقية المقرر دخولها في السوق، في ظل وجود ٢٤١٣٣ غرفة فندقية قيد البناء حاليا، أي أنها باتت بعد دبي مباشرةً التي سجلت ٤٣٧١٤ غرفة فندقية قيد البناء.

وبحسب دراسة سعودية سابقة فإن الأثر الأكبر للحج يظهر على صعيد قطاع العقارات، لاسيما أن بعض الدراسات تشير إلى أن ما ينفق على قطاع الإسكان يستحوذ على 30-40 في المائة من إجمالي ميزانية الحاج، ما يعني أن قطاع الإسكان له نصيب الأسد من الإنفاق على الحج، وهذا الإنفاق انعكس مؤخرا على نشاط القطاع العقاري بمدينة مكة المكرمة، وخصوصا في ظل محدودية عرض المنتج العقاري.

كما يترك الحج آثارا اقتصادية على قطاعات أخرى، مثل التوظيف والنقل والمواصلات والمواد التموينية والكماليات كالهدايا والتحف وغيرها، ويترك الحج تأثيراته أيضا على ميزان المدفوعات، وكذلك على الاحتياطات الأجنبية للمملكة، إذ إن قدوم الحجاج يُنشئ طلباً ملحوظا على الريال السعودي لتغطية نفقات الحج، وهذا يشكل موردا هاما للدولة من العملات الأجنبية لاسيما الرئيسية منها.

بعد ديني لتغيير المعالم

لا تغيب الأجندة الدينية، عن الواجهة الرأسمالية، بالنسبة لتوسعات الحرم وهدم ماتبقى من الآثار الإسلامية، حيث إن  “الوهابية” التي قامت على مذهبها الدولة السعودية، تحفز آل سعود على تدمير الأماكن المقدسة.

ويقول الوهابيون، إنهم يفعلون ذلك خوفا من الشرك، أو ربط أي شيء أو شخص بغير الله، ورغم أنه لا خلاف بين المسلمين على “خطيئة الشرك” إلا أن السعوديين والوهابيين يفسرونها على هذا النحو؛ لمحو أي أثر تاريخي، وفقا لمراقبين.

أحد أبرز الأمثلة وأوضحها، هو الموقع الذي يُعتقد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد وُلد فيه، في الخمسينيات من القرن الماضي حولته المملكة إلى سوق للماشية، ثم مكتبة لاحقًا، والآن يسير الوهابيون في طريق هدم المكتبة وبناء امتداد لقصر ملكي ليصبح مقر إقامة للملك، ولتجنب أي غضب من المسلمين قام السعوديون بوضع لافتة في الموقع تقول “لا يوجد أي دليل على أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد وُلد هنا، ولذلك لا يجوز تخصيص الصلاة والدعاء أو التبرك في هذا المكان”.

وفي أكثر من فتوى أجاز مفتي عام السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ هدم الآثار بمكة المكرمة لتوسعة الحرمين الشريفين.

وأكد المفتي العام، “إن ما هُدم من آثار في الحرمين الشريفين لا مانع منه، بل إنه من الضرورة، مشيراً إلى أن توسعة الحرمين عمل شريف، وتُشكر عليه الدولة”.