لا جدال في أن الاحتجاجات التي تتواصل في العراق، والتي ذهب ضحيتها حشد هائل من الأبرياء، فضلاً عن الجرحى، قد تركزت في المناطق الشيعية المهمّشة، إن كان في بغداد أم في المناطق الأخرى، من دون أن ينفي ذلك مشاركة الآخرين، وتحديداً العرب السنّة في بعض الفعاليات.
هذا البعد يعزّز من أهمية تلك الاحتجاجات، ولا يقلّل منها كما يعتقد كثيرون، والسبب بطبيعة الحال يتعلق بحقيقة أن طبقة سياسية شيعية هي التي حكمت وتحكم العراق منذ ما بعد الاحتلال وحتى الآن، هذه الطبقة نفّذت أكبر عملية نهب في التاريخ، وأثرى رموزها ثراء لا نظير له، هم الذين كان أكثرهم فقراء الحال يعيشون على المعونات في دول غربية، فيما كان آخرون لاجئين في إيران أو دول أخرى، وبأوضاع بائسة يعرفها الجميع.
هؤلاء تحولوا خلال سنوات قليلة إلى أصحاب ملايين، وهناك أصحاب عشرات، بل حتى مئات الملايين، بينما لم يجد فقراء الشيعة أي تحسّن على حياتهم المعيشية، اللهم سوى المبالغة في الطقوس الحسينية، والتي اكتشفوا أنها تُستخدم أيضاً لتخديرهم، حتى هتف كثيرون منهم «باسم الدين باجونا الحرامية».. أي سرقونا.
ما يجري في العراق هو احتجاج معيشي دون شك، لكنه سياسي أيضاً، إذ من قال إن البعد السياسي ليس هو المسؤول عما جرى ويجري؟!
ذلك أن ما وفّر الحماية لهذه الطبقة لم يكن سوى تبعيتها لإيران، فمقابل هذه التبعية حصلت على الحصانة والحماية، وصار بوسع رموزها أن يراكموا الملايين، وعشرات ومئات الملايين، ثم يخطبوا عن الفساد من دون أن يرفّ لهم جفن، وبالطبع لأنهم يدفعون الثمن تبعية لإيران، الكل يخطب ضد الفساد،
لكن أكبر الفاسدين -كما هو حال نوري المالكي وعصابته- يتحركون بقوة ويواصلون فعلهم السياسي، وتأثيرهم في المشهد، وإن أبرزت الانتخابات الأخيرة بُعداً بالغ الأهمية يتعلق بصعود التيار الصدري الذي مثّل هذه الفئة المهمّشة، وهو الصعود الذي جرى الالتفاف عليه تبعاً لهيمنة إيران على الساحة.
مقتدى الصدر هو ممثل هذه الفئة، لكنه ما إن يتمرد على النفوذ الإيراني، حتى تتم محاصرته وإعادته إلى الوصاية من جديد، وأقلّه الصمت والرضا بالواقع القائم.
أنصاره هم من هتفوا سابقاً «إيران بره بره»، وهم من كرروا الهتاف ذاته هذه المرة، وإن تبرأ منهم في البداية -يبدو أنه فوجئ أيضاً بالاحتجاجات- قبل أن يطالب بحلّ البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، بجانب استقالة الحكومة بالطبع.
من العبث القول إن عادل عبد المهدي هو المسؤول عن الواقع المتردي الراهن، وهو رغم مسؤوليته الأخلاقية عن قتل المحتجين، فإن واقع الحال يقول إن الميليشيات هي المسؤولة، بجانب مؤسسة أمنية لا يملك السيطرة عليها، وهي من بقايا زمن المالكي.
ومن تابع تغطية الإعلام الإيراني، والإعلام التابع سيدرك حقيقة الموقف، فقد تم توصيف الاحتجاجات بأنها مؤامرة سعودية أميركية صهيونية، فيما يعلم الجميع أن ذلك محض كذب وهراء.
عادل عبد المهدي – كما العبادي من قبله- يدرك أن العراق لن يخطو إلى الأمام من دون تراجع النفوذ الإيراني، ولكن من قال إن ذلك ممكن وسليماني يحكم البلد من خلال الميليشيات، ومن خلال سياسيين فاسدين لا يحاسبهم أحد؟!
النتيجة التي نصل إليها دائماً في مناسبات كهذه هي ذاتها، ممثلة في أنه من دون أن يتحلل العراق من نفوذ إيران، وتتم محاسبة الفاسدين الذين يعرفهم الجميع واستعادة ما سرقوا، وتكون الحكومة ممثلة لضمير الناس بالفعل، فإن العراقيين سيواصلون النزيف.
لا يتعلق الأمر بالغالبية الشيعية المهمّشة وحسب، بل أيضاً بالعرب السنّة الذين كانوا أكثر نزفاً على كل صعيد، الأكراد فيما يشبه الاستقلال وبالطبع بسبب مراهقة ممثليهم السياسيين الذين تم التلاعب بهم من المالكي وكل المنظومة الإيرانية، من دون التقليل من النتائج الكارثية التي ترتبت عليهم وعلى مناطقهم جراء مغامرة تنظيم الدولة التي لم تنتهِ فصولاً بعد، وإن انتهت كدولة.
احتجاجات العراق وتضحيات أبنائه أكدت من جديد أن فيه شعباً يستحق الحرية والاستقلال، ويمكن أن يتعايش أبناؤه بسلام رغم تعدد مذاهبهم.
اضف تعليقا