في حكم تاريخي صدر يوم 5 فبراير/ شباط 2021، اعترفت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية بالاختصاص الإقليمي للمحكمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما سمح للمدعية لفاتو بنسودا على الفور بفتح تحقيق رسمي في الجرائم المرتكبة هناك.
تحت هذه الكلمات نشرت صحيفة “لوموند أرب” الناطقة بالفرنسية مقالا لإريك بيتشيه، اقتصادي فرنسي وأستاذ دراسات عليا في كلية إدارة الأعمال بكيدج، حول التحقيقات التي تجريها المحكمة الجنائية في جرائم الاحتلال بفلسطين.
وأشار الكاتب إلى أن التحقيق سيركز على ثلاثة مواضيع على الأقل من جرائم الحرب التي يُزعم ارتكابها منذ 13 يونيو/ حزيران 2014، وهو التاريخ الذي اختارته فلسطين للاختصاص القضائي للمحكمة، حيث انضمت إلى نظام روما الأساسي عام 2015.
وأوضح أن الموضوع الأول سيرتكز على الجرائم التي ارتُكبت خلال حرب صيف 2014 في قطاع غزة، من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما بسبب “هجماته غير المتناسبة” وعمليات القتل وتدمير الممتلكات المدنية، والتي نتج عنها، بحسب الأمم المتحدة، 2200 قتيل في الجانب الفلسطيني، بينهم 1500 مدني و73 قتيلاً في الجانب الإسرائيلي، بينهم 67 جندياً.
أما الموضوع الثاني فيتعلق بالقمع الإسرائيلي لمظاهرات “مسيرة العودة” لعام 2018، على حدود غزة، لا سيما القتل والإصابات المتعمدة للمدنيين (200 قتيل وعدة آلاف من الجرحى الفلسطينيين)؛ وأخيراً تلك الجرائم المرتبطة باستعمار الأراضي الفلسطينية المحتلة، مثل نقل المدنيين الإسرائيليين إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية.
ونوه الكاتب بأنه سيتم تحليل النوعين الأولين من قبل المحكمة الجنائية الدولية في ضوء قانون الحرب أي هل القوة المستخدمة من قبل أطراف النزاع كانت قانونية فيما يتعلق بمقتضيات الضرورة والتناسب والتمييز بين المدنيين والجنود؟
ولفت إريك بيتشيه إلى أنه في حين ستتطلب “الحوادث المسلحة” التي تسببت في سقوط ضحايا مدنيين عام 2014 تحليلًا متعمقًا وجمع الأدلة التي من المتوقع أن تكون معقدة، ليس هناك شك في عدم شرعية قمع المظاهرات السلمية التي كانت في الغالب خلال “مسيرة العودة” 2018، وكذلك المسؤولية الجنائية للقناصة الإسرائيليين ورؤسائهم.
استمرار الانتهاكات
لكن قبل كل شيء سيكون النوع الثالث، بحسب الكاتب، هو الأسهل في إثباته، لأن عملية استعمار الأراضي الفلسطينية المحتلة (440.000 مستوطن في الضفة الغربية و230.000 حول القدس) – مع القرارات التي اتخذها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو منذ عام 2010 – تنتهك إسرائيل بشكل مستمر وواضح اتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكولها الإضافي الأول وكذلك نظام روما الأساسي نفسه (المادة 8)؛ إذ يوجد ثلاثة نصوص تحظر على دولة الاحتلال تعديل التركيبة السكانية والأراضي المحتلة.
وأكد على أن قرار الاستعمار (مصادرة الأراضي الفلسطينية، وطرد سكانها، وبناء مساكن للمستوطنين هناك) يتم اتخاذه من قبل سياسيين (مكتب رئيس الوزراء)، وينفذه بشكل منهجي قنوات محددة جيدًا للإدارة العسكرية ومختلف الوزارات والمجتمعات المحلية.
وباختصار، بالنسبة للمدعي العام وقضاة المحكمة الجنائية الدولية، فإن “جريمة الاستعمار”، المحددة في المادة 8 من نظام روما الأساسي، تعد الخطر الأكبر على القادة الإسرائيليين، خاصة وأن عملية الاستعمار يصاحبها تمييز ممنهج بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما يشكل، بموجب القانون الدولي، جريمة ضد الإنسانية.
ووفقا للكاتب سيكون من السهل إثبات مشاركة السلطات السياسية الإسرائيلية في إنشاء مثل هذا النظام، الذي وصف بالفعل بأنه “فصل عنصري” من قبل بعض المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية والمقررين الخاصين للأمم المتحدة.
وتابع ” وبما أن القانون الإسرائيلي يعتبر الاستعمار شرعياً، فلن يتم بالطبع إجراء تحقيق محلي بشأن مرتكبي جريمة الاستعمار. وبالتالي، سيكون مكتب المدعي العام قادر على التحقيق في هذه الحقائق بلا تأخير، دون أن تتمكن إسرائيل من معارضة قاعدة “التكامل”، أي وجود إجراءات جنائية في الدولة ضد مرتكبي جرائم الحرب ما يمكن من خلاله عرقلة ممارسة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، كما قد يكون هو الحال في النوعين الأولين من الجرائم المرتكبة في غزة.
نضال إسرائيلي ضد الجنائية
ولفت بيتشيه إلى أن خلال التحقيق الذي يجريه مكتب المدعي العام، سيتم بالتأكيد محاكمة الجنود والقادة الإسرائيليين وسيخضعون بعد ذلك لمذكرة دولية، تقيد سفرهم الدولي، خاصة في الدول الأوروبية، وكلها موقعة على نظام روما الأساسي.
ففي ديسمبر/ كانون الأول 2009، اضطرت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني، إلى إلغاء إقامتها في لندن في اللحظة الأخيرة بعد أن علمت أنها تخضع لمذكرة توقيف صادرة عن محكمة بريطانية، بعد شكوى ضدها لدورها في الجيش الإسرائيلي خلال عملية على قطاع غزة قبل ذك بعام.
لكن الخطر سيكون أكثر واقعية بالنسبة للمواطنين الإسرائيليين الذين قدموا دعمهم لجرائم الحرب لأن مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لا يتم نشرها للعلن.
وفي مواجهة هذا الاحتمال، الذي يؤثر بشكل مباشر على الجيش والقادة، يضيف الكاتب، جعلت الحكومة الإسرائيلية نضالها ضد المحكمة الجنائية الدولية أولوية استراتيجية للدولة.
وأشارت صحيفة “هآرتس” اليومية في مقال نُشر يوم 16 يوليو / تموز 2020، إلى أن إسرائيل كانت تعد قائمة سرية من 200 إلى 300 شخص يحتمل محاكمتهم مثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والوزراء السابقين موشيه يعلون وأفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت، وكذلك رئيس الأركان السابق في ذلك الوقت بيني غانتس، المنافس السياسي لرئيس الوزراء الآن.
وأوضح الكاتب كذلك أنه في الآونة الأخيرة، من خلال جولة في العواصم الأوروبية منتصف مارس/ آذار الماضي، سعى الرئيس الإسرائيلي ورئيس أركان الجيش للحصول على دعم أوروبي ضد الإجراءات التي بدأتها المحكمة الجنائية الدولية.
وإلى جانب الخطر الإجرامي، توجد حزمة كاملة من القرارات والاجتهادات القضائية الدولية بشأن استعمار الأراضي، منذ قرار محكمة العدل الدولية لعام 2004 الذي أكد عدم شرعية جدار الفصل العنصري والمستوطنات الإسرائيلية، كما أنه في عام 2016، دعا قرار لمجلس الأمن الدولي إلى إنهاء الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كذلك صادقت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي على التشريع الخاص بوسم المنتجات القادمة من المستعمرات الإسرائيلية، وأدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في يونيو/ جزيران 2020 فرنسا، لفرضها عقوبات قضائية على ناشطين مؤيدين لفلسطين عام 2013 بسبب دعوتهم إلى مقاطعة منتجات إسرائيلية.
لذلك، يقول الكاتب: لا يمكن محاسبة الجيش وقيادته فحسب، بل أيضًا المستوطنين أنفسهم، أي ما يقرب من 670 ألف مواطن إسرائيلي، وكذلك جميع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين- الإسرائيليين أو الأجانب – الذين يضمنون بقاء المستوطنات.
مائة شركة في مرمى النيران
وبين أن تواطؤ الجهات الفاعلة التي تساهم، بشكل مباشر أو غير مباشر في الاستعمار الذي يندد به جزء من الرأي العام الدولي بشكل متزايد، يمكن أن تطاله العدالة الدولية ومحاكم الدول المختلفة، فبعد عشرات القرارات التي تدين الاستعمار الإسرائيلي، نشر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2020 قائمة تضم 112 شركة (بينهم 94 شركة إسرائيلية) تمارس أنشطة في المستوطنات الإسرائيلية.
وتساءل إلى أي مدى ستكون إسرائيل مستعدة للذهاب لمواجهة الشرعية الدولية؟، موضحا أنه حتى الآن، وبفضل الدعم الأمريكي والتعاطف الأوروبي، وخاصة الفرنسي، اعتقدت السلطات الإسرائيلية أنها تستطيع الاستعمار دون المخاطرة بالعقوبات.
لكن على الساحة السياسية والدبلوماسية، تقدم المحكمة الجنائية الدولية نفسها كلاعب جديد يمكنه تغيير اللعبة، فعندما يتم إصدار أوامر الاعتقال، سيصبح من الصعب على الدول الأوروبية بشكل متزايد الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية المتميزة التي أقامتها مع إسرائيل.
واختتم الكاتب مقاله بالقول في إسرائيل، لم تعد القضية الفلسطينية مركزية في الجدل السياسي خلال السنوات الأخيرة، إذ حل مكانها الخطر الإيراني والرغبة في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية، لكن القرارات التي ستتخذ عاجلاً أم آجلاً في لاهاي قد تعيد القضية الفلسطينية إلى مركز النقاش في المستقبل.
للإطلاع على النص الأصلي اضغط هنا
اقرأ أيضًا: جيش الاحتلال يعتقل 25 فلسطينيًا في الضفة الغربية
اضف تعليقا