محاولة الكيان الصهيوني الأخيرة لإسكات المجتمع المدني الفلسطيني ما هي إلا خطوة تكتيكية في استراتيجيتها الاستعمارية، والتي تهدف إلى إزالة العقبات التي تعترض طريق هذه الاستراتيجية. يرى كثيرون أن هذه المحاولة، مثل غيرها من المحاولات السابقة، مصيرها هو الفشل المحتوم، وذلك لأن الرسالة أكبر ممن تستهدفهم، فإن السعي وراء الحقيقة هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية.

من الممكن أن يكون تصنيف وزير الدفاع الإسرائيلي لست منظمات مجتمع مدني فلسطينية كمنظمات إرهابية، متبوعٌ بأوامر عسكرية على نفس المنوال، قد أثار صدمة في جميع أنحاء المجتمع الدولي، لكن بالنسبة للذين يعملون في هذه المنظمات المدنية لم يكن مفاجئًا أبدًا. 

فعلى مدار السنوات الماضية، كانت ولا زالت إسرائيل تحاول تقويض جهود المجتمع المدني الفلسطيني الذي يقف في طريق سياستها الاستعمارية، والتي لم تحرز نجاحًا كبيرًا مقارنة بعدد وكمية الموارد التي تمتلكها. على الرغم من الاحترام الذي يظهره المجتمع الدولي لإسرائيل ومزاعمها، إلا أنه لم يقتنع بأن هذه المزاعم تمثل الحقيقة.

وقد أدى هذا الفشل بإسرائيل إلى خلق نسختها من الحقيقة عن طريق فرض القوانين، والتي تستخدمها لتعزيز روايتها عما يحدث، متوقعة أن يجبر غطاء القانون المجتمع المدني على الاستسلام. ومع ذلك، فإن استخدام مثل هذه التكتيكات ليس جديدًا في السياق التاريخي لديناميات العلاقات بين المستعمر والمستعمَر، وبين الظالم والمضطهد. من الأمريكتين إلى أفريقيا، في آسيا وأوروبا، تم استخدام مثل هذه التكتيكات لتبرير اضطهاد وإخضاع أولئك الذين يسعون لتحقيق العدالة ونشر الحقيقة.

ومع ذلك، هناك متغيران رئيسيان في سياق اليوم، واللذان يميزان استخدام  مثل هذه التكتيكات في الوقت الحاضر عن استخدامها في الماضي. 

الأول هو تطوير القانون الدولي وإضفاء الطابع المؤسسي على النظام الدولي لحقوق الإنسان، وهو يهدف إلى معالجة ديناميات القوة غير المتكافئة مع تنظيم المسار نحو إنهاء الاستعمار. والثاني هو التقدم التكنولوجي، والذي فتح الباب لوسائل وأساليب جديدة يمكن من خلالها جعل التكتيكات أكثر فعالية.

 فيما يخص المتغير الأول، فإنه عندما تأسست مؤسسة الحق في عام ١٩٧٩، وهي منظمة فلسطينية مستقلة لحقوق الإنسان، وإحدى المنظمات المصنفة بأنها إرهابية، كانت مؤسسة النظام الدولي لحقوق الإنسان في مراحلها الأولى. وكان عمل المنظمة يهدف إلى نقل الحقيقة حول ما يحدث على أرض الواقع كما هو للمجتمع الدولي، على أمل أن يؤدي هذا إلى اتخاذ إجراءات جدية بموجب القانون الدولي.

بمرور الوقت، طورت مؤسسة الحق نهجًا أكثر استباقية تجاه الدعوة إلى إنفاذ القانون الدولي، وذلك من خلال استهداف الإرادة السياسية للمجتمع الدولي، واستخدام الآليات التي تم تطويرها كأدوات مشروعة، يمكن استخدامها في السعي وراء الحقيقة بذاتها.

 من خلال الصقل والتطوير في استخدام تلك الآليات -مثل المحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية قمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، ومجال الأعمال التجارية وحقوق الإنسان- تمكنت المنظمة من تحدي السياسة الاستعمارية للكيان الصهيوني، وكان ذلك عن طريق مواجهة الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل، وكذلك تمسكها بالقيم الديموقراطية وسيادة القانون، فضلًا عن الحوافز الاقتصادية التي تسهل وتدعم وجود الاستعمار الإسرائيلي في فلسطين. 

إن نجاحات مؤسسة الحق في تصعيد هذه التحديات أدت بالكيان الصهيوني إلى حالة من القلق، حيث كانت تحركاتها الأخيرة مجرد محاولة لإزالة مصدر هذا الانزعاج، ورد فعل طبيعي على كشف الحقيقة للمجتمع الدولي.

وعلى الرغم من أن إسرائيل قادرة على اتخاذ إجراءات مباشرة ضد مؤسسة الحق والمنظمات الأخرى، إلا أنها اختارت نهجًا غير مباشرًا، ويستخدم هذا النهج تطورًا آخرًا للقانون الدولي حول تمويل الإرهاب، متوقعةً أن يدب هذا المصطلح الخوف في نظام الدعم الدولي، مما يجعل المؤسسة معزولة غير مستدامة. 

إن إسرائيل تعتمد استراتيجية تقوم على نهج علم النفس السلوكي، مفادها أن الكيان يضمن استسلام أولئك الذين يدعمون المضطهدين لمقاومة مستعمرهم، وهذا الاستسلام مصدره الخوف، وليس الاقتناع والإيمان بالحقيقة، كما أن الكيان الصهيوني يراهن على الهروب كرد فعل سلوكي.

فيما يتعلق بالمتغير الثاني لتطور التكنولوجيا، فإن تطوير إسرائيل لوسائل وأساليب القهر والسيطرة يشكل جزءًا من سياستها، والتي تهدف لجعل الاستعمار المستمر لفلسطين مشروعًا تجاريًا مربحًا، وفي المقابل يهدف عمل المؤسسة إلى مواجهته وتحديه. من خلال الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل، تمكنت من استغلال مجموعة من الأسرى الفلسطينيين كمختبر لبحوث وتطوير الأسلحة وتكنولوجيا المراقبة، والتي يتم تسويقها وبيعها في جميع أنحاء العالم على أنها ابتكار إسرائيلي.

ومثالًا على ذلك، كما أوضحت مؤسسة الحق، فإن الاكتشاف الأخير لاستخدام برنامج التجسس “‏Pegasus”، وهذا البرنامج يستهدف المدافعين الفلسطينيين عن حقوق الإنسان، ولا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة أن تصنيف إسرائيل لست منظمات مجتمع مدني كمنظمات إرهابية، متزامنٌ مع اكتشاف برامج تجسس على جهاز أحد موظفي المؤسسة. وقالت أيضًا إن طبيعة عملهم هي التي أدت بهم إلى الشك والتحقيق فيما حدث.

كما أن المؤسسة ليست متخوفة من استخدام تكنولوجيا المراقبة في حد ذاتها، بل إن تخوفها الأكبر يتعلق باحتمال إساءة الكيان الصهيوني لاستخدام هذه التكنولوجيا، كتلفيق أدلة يمكن استخدامها لاحقًا “كدليل سري”، ونظرًا لاحترام القضاء الإسرائيلي لأجهزته الأمنية فإن هذه التكنولوجيا محصنة من التدقيق الموضوعي. 

وهذا هو السبب في أن هجوم الاحتلال الأخير على المجتمع المدني الفلسطيني يجب ألا يُنظر إليه فقط على أنه مجرد محاولة لإزالة العقبات التي تعترض السياسة الاستعمارية لإسرائيل، بل يجب أن يُنظر إليه أيضًا على أنه محاولة لصرف المؤسسة عن التحقيق وتقويض موقفها في أعين المجتمع الدولي، هادفةً إلى تأمين الحوافز الاقتصادية التي تديم قمعها للشعب الفلسطيني.

ومع ذلك، وبفضل تطور وسائل التواصل الاجتماعي والتقدم في القدرات التكنولوجية للمدافعين عن حقوق الإنسان ، مثل “فرونت لاين ديفندرز” و”سيتيزن لاب”، أصبح قمع الحقيقة أكثر صعوبة.

بينما يستجيب المجتمع الدولي لما يحدث بشكل متوازي ومتسق مع تقييم سلوك التكلفة والمنفعة التي تتبعه إسرائيل، يجب أخذ متغيرين آخرين في الاعتبار.

 الأول هو الاقتناع العادل بطبيعة النضال الفلسطيني من أجل حق تقرير المصير، والذي يتقاسمه المجتمعين المدني الفلسطيني والدولي على حدٍ سواء. أما المتغير الثاني فهو أكثر ارتباطًا بالمجتمع المدني الفلسطيني، بما في ذلك الست المنظمات المصنفة كمنظمات إرهابية، وهو أن هذه الرحلة بالنسبة لهم ليست خيارًا، بل هي واقع محتوم. 

وكما أوضحت المنظمات المدنية الفلسطينية، إن عملهم سيستمر إلى بلوغ الهدف، وإن الاستسلام للاستبداد والقمع يتعارض مع الطبيعة البشرية.