كان يُنظر دائماً إلى أن الأمم المتحدة هي صمام الأمان والصوت العاقل لإحلال الأمن والسلام في مناطق النزاعات والصراعات في مختلف القارات، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، التي يعلو فيها أزيز الرصاص.
لكن في السنوات الماضية، وخاصة العقد المنصرم، ظهرت هشاشة المنظومة الأممية وتراجع دورها ونفوذها وفعاليتها؛ مقابل صعود نجم قوى وتحالفات إقليمية نجحت في ما فشلت فيه الأمم المتحدة ومبعوثوها إلى دول الصراع والأزمات.
ونجحت تركيا في إدارة أكثر من ملف خارجي، وجنّبت دولاً صراعات عسكرية وإراقة دماء كان يُخطط لها داخل الغرف المظلمة، وهنا يدور الحديث حول حصار قطر، فضلاً عن الأزمتين السورية والليبية، اللتين عرفتا صراعاً داخلياً مسلحاً بين أطرافها، ما زاد من تعقيد المشهد ووضع عقبات إضافية، في ظل تشابك خطوط الأزمة ودخول لاعبين إقليميين ودوليين.

 

حصار قطر

وأثبتت أنقرة بفضل دبلوماسيتها الخارجية القوية نجاعةً إبان حصار قطر؛ عندما فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصاراً خانقاً على الدوحة، في 5 يونيو 2017؛ بزعم مكافحة الإرهاب، وهو ما نفته الدوحة جملة وتفصيلاً، وقالت إنها تواجه حملة ممنهجة تستهدف سيادتها وقرارها الوطني المستقل، وذلك لتغيير سياستها الخارجية.
وفي وقت انضمت فيه دول عديدة إلى الرباعي العربي في موقفها ضد قطر، برزت تركيا كداعم أساسي لقطر، ونجحت في خلق توازن قوي منع تدحرج الأمور إلى مواجهة عسكرية، بعدما أثبتت تقارير صحفية غربية أن الرياض وأبوظبي كانتا تخططان لغزو قطر واحتلالها؛ مثلما كشف ستيف بانون، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشؤون الاستراتيجية سابقاً.
ونشرت تركيا بموجب اتفاقية دفاع مشترك مع قطر صدّق عليها البرلمان التركي، بعد أيام قليلة من اندلاع الأزمة الخليجية، قوات عسكرية في الدولة الخليجية، فضلاً عن إقامة قاعدة عسكرية دائمة، وهو ما أجبر دول حصار قطر على التراجع عن خططهم العسكرية، يضاف إلى دور الوساطة الذي أدّته الكويت.
وكان وزير الدولة لشؤون الدفاع القطري خالد العطية، قد قال في أكتوبر 2018: إن “من العوامل الخارجية التي أفشلت الحصار وقوف تركيا مع قطر بالدرجة الأولى”، مضيفاً: “استطعنا إفشال أي عمل عسكري ضد قطر”.

 

الأزمة الليبية

كما برزت السياسة الخارجية التركية في الأزمة الليبية؛ فبعدما كانت كل التوقعات على الأرض تشير إلى زحف قوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر إلى العاصمة طرابلس، مقر حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، التي اتخذت موقفاً دفاعياً في ظل صمت دولي مطبق؛ تدخلت تركيا وأعادت القضية إلى الساحة الدولية بقوة.
وما زاد من صعوبة الأمور على الحكومة الليبية برئاسة فائز السراج، الدعم العسكري الكبير الذي حصل عليه اللواء المتمرد من مصر والإمارات وفرنسا، إلى جانب تزويده بمليشيات ومرتزقة من الجنجويد السودانية، إلى جانب مرتزقة من مجموعة “فاغنر” الروسية.
وقلبت أنقرة الطاولة رأساً على عقب؛ بعد توقيعها مع الحكومة الليبية مذكرتي تفاهم، أواخر نوفمبر 2019، بشأن التعاون الأمني والعسكري، وتحديد مناطق الصلاحية البحرية، قبل أن يصدق البرلمان التركي، مطلع يناير 2020، على مذكرة تفويض رئاسية تقضي بإرسال قوات عسكرية تركية إلى ليبيا.
ومع إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بدء إرسال قوات بلاده العسكرية إلى طرابلس، وتزويد حكومة الوفاق بالأسلحة والمعدات العسكرية واللوجستية، تغير المشهد على أرضية الميدان، وبدأت الكفة تتعادل بين طرفي النزاع بعد أن مالت كثيراً لصالح قوات حفتر.
ودفع التدخل العسكري التركي الأسرة الدولية والفاعلين في الملف الليبي للتحرك وضرورة اتخاذ موقف إيجابي، أثمر عن وقف إطلاق نار بين طرفي الأزمة الليبية، بدأ منتصف الأحد (12 يناير)، بمبادرة تركية روسية، إثر محادثات بين الرئيسين أردوغان وفلاديمير بوتين.

 

الأزمة السورية

أما أكثر الملفات تعقيداً وتشابكاً فكانت الأزمة السورية التي تشعبت كثيراً في ظل وجود جيوش دول أمريكا وروسيا وتركيا وفرنسا وإيران ومليشيات إقليمية؛ لبنانية وعراقية وباكستانية وأفغانية.
ووجدت تركيا نفسها في حقل ألغام؛ بين مساندة حقوق ومطالب الشعب السوري بالحرية والديمقراطية، وحماية حدودها من خطر نشوء كيان كردي انفصالي، لتدخل في تحالف مع روسيا وإيران لحلحلة الأزمة السورية، فيما عرف بمحادثات أستانة للسلام التي بدأ مسارها في يناير 2017، في ظل الفشل المتلاحق لمبعوثي الأمم المتحدة لإحداث اختراق حقيقي.
وفي مايو 2017، أعلنت تركيا وروسيا وإيران التوصل إلى اتفاق “منطقة خفض التصعيد” بإدلب، في إطار اجتماعات أستانة المتعلقة بالشأن السوري، وهو ما جنّب المدينة المكتظة بالسكان هجوماً كاسحاً من قوات بشار الأسد والروس.
كما تمكّنت أنقرة من إفشال مخططات كانت تحاك ضدها بإقامة كيان كردي انفصالي مدعوم أمريكياً وإسرائيلياً على طول حدودها بثلاث عمليات عسكرية هي: “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، أعوام 2016 و2018 و2019 توالياً.

 

ما سر النجاح التركي؟

يقول الكاتب والمحلل السياسي التركين حمزة تكين، إن النجاح التركي الذي يتحقق في عدد من الساحات بات لافتاً لنظر الكثيرين في المنطقة والإقليم والعالم، مستدلاً بالنجاح الذي تحقق في قطر وسوريا وفي طور التحقيق بليبيا.
وأوضح “تكين” خلال حديثه لـ”الخليج أونلاين”، أن نجاح تركيا تحقق رغم وجودها وحدها في تلك الملفات بدون أي مساندة أو دعم من دول “ثقيلة” في العالمين العربي والإسلامي، باستثناء قطر، مشيراً إلى أن بعض هذه الدول لا تترك تركيا تعمل، بل تعمل ضدها في بعض الأحيان.
وأشار إلى أن أنقرة نجحت كثيراً في تجنيب الشعب السوري كثيراً من المجازر التي كان سيرتكبها النظام وروسيا في العديد من المناطق، مؤكداً أن تركيا تعمل وحدها في إدلب، وتضغط في الأروقة الدبلوماسية والسياسية لإيقاف “أي مخطط أسود ضد إدلب”.
وأرجع تكين نجاح السياسة الخارجية التركية إلى القوة التي تتمتع بها في الإقليم والمحافل الدولية، مشيراً إلى أن تركيا باتت دولة قوية وتصنع أسلحتها بنفسها، والكثير من احتياجاتها التكنولوجية والغذائية، فضلاً عن احتلالها مكانة متقدمة في أقوى الاقتصادات بالعالم (المرتبة الـ13 عالمياً والـ5 أوروبياً من حيث القوة الشرائية)، وتنقب وحدها عن النفط والغاز بالبحر الأبيض المتوسط دون الاستعانة بأي أحد.
ويرى المحلل السياسي التركي أن كل ما سبق يُعطي أنقرة قوة واستقلالية كبيرتين في الاقتصاد، ومن ثم قوة سياسية في المحافل والأروقة العالمية.
وأشار “تكين” أيضاً إلى الأذرع الإغاثية الكثيرة لتركيا المنتشرة في أكثر من 160 دولة حول العالم لخدمة المضطهدين والمنكوبين والمستضعفين، وهو ما يعزز صورتها عالمياً، ومن ثم فإن دورها الإيجابي يصبح أكثر نفعاً ومرونة وقبولاً عند الشعوب.
وحول سبب نجاح تركيا وفشل الآخرين يوضح المحلل السياسي أن “تركيا صادقة بأهدافها ومساعيها وتوجهها للشعوب، كما أنها صادقة مع حلفائها؛ على غرار قطر والشمال السوري والصومال وليبيا وأفغانستان والبوسنة، وهذا الصدق غير متوفر عند الجهات الأممية”، التي قال إنها تكيل بمكيالين في كل ملفات العالم، وتقف إلى جانب القوي على حساب الضعيف والمضطهد، خلافاً لسياسات تركيا.
وأكمل موضحاً لـ”الخليج أونلاين”: “تركيا تقوى وتسعد ببيئة آمنة في حال كانت الشعوب وأصدقاؤها في أمان وازدهار ووحدة وسلام، لا في قتل وخراب وتدمير؛ لذلك تسعى لإنهاء الحروب لا إشعالها وتغذيتها وإطالة أمدها؛ على عكس كثير من الآخرين”.
ويتساءل: “ماذا قدمت الأمم المتحدة للبشرية منذ أن تأسست”، مشيراً إلى أن أعداد الحروب باتت أكثر مما كانت عليه قبل تأسيس المنظمة الأممية، واصفاً إياها بأنها تقوم بـ”أعمال تجارية في الملفات لصالح الأقوياء وحيتان المال والسلطة”، وهي سياسة لا تنتهجها تركيا.
ويستشهد بحالة الحرب المندلعة في ليبيا منذ سنوات، وغيابها عن الأجندات والاجتماعات الدولية، قبل أن تصبح أولوية لواشنطن وموسكو والغرب ووسائل الإعلام عندما تدخلت تركيا في الشهرين الأخيرين.
ويكمل موضحاً: “يعتقد هؤلاء أن التدخل التركي هو تدخل إيجابي، وسيفضحهم وينهي مشاريعهم التقسيمية والاقتتالية التي تغذي الحروب، لذلك بدؤوا في عرقلة دور أنقرة  في ليبيا عبر عقد سلسلة اجتماعات ومفاوضات ولقاءات”.