الحروب التي نشبت بين روسيا وتركيا هي الأطول في التاريخ، فقد بدأت عام 1568 واستمرت تتوالى بشكل متقطع على مدى قرون، لتنتهي عمليا خلال الحرب العالمية الأولى بانتصار
لتركيا مع حلفائها في الإمبراطورية الهنغارية النمساوية وألمانيا على الإمبراطورية الروسية التي سقطت بعد ذلك في يد البلاشفة مع ثورة 1917، ثم انهارت السلطنة العثمانية بدورها لتظهر جمهورية تركيا الحديثة للوجود.
تحوّل الصراع الحربي المزمن بين البلدين بعد الحرب العالمية الأولى إلى صراع أيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي الذي حمل لواء نشر الشيوعية في العالم، وتركيا التي عمل زعيمها مصطفى أتاتورك على تحويلها إلى جمهورية علمانية متشددة.
ومع دخول أنقرة حلف الناتو عام 1951، أصبحت مركزا متقدما للعالم الغربي ضد خطط موسكو للتوسع، ورغم تغيّر الشعارات والرايات فإن التنازع على الأرض والبحار والنفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي، والمخاوف القديمة بين البلدين لم تتوقف.
وضعت الأحداث التي جرت في سوريا بعد ثورة 2011 البلدين في موقعين متناقضين، فقد وجدت فيها روسيا فرصة لتطبيق استراتيجيتها العسكرية الثابتة في الوصول إلى المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط، وكذلك تطبيق استراتيجيتها السياسية في دعم الأنظمة الدكتاتورية ضد أي شكل من أشكال التغيير الجماهيري.
أما تركيا فوجدت نفسها في الموقع الداعم للمعارضة السورية بعد أن رفض النظام أي تسوية سياسية وخاض حربا دموية ضد المتظاهرين، ومثّلت لحظة إسقاط تركيا لطائرة سوخوي 24 روسية عام 2015 ذروة المواجهة بين البلدين، وفتح ذلك الباب لتوتّر سياسيّ شديد بينهما ولإقرار موسكو عقوبات مؤثرة على بعض قطاعات الاقتصاد والسياحة التركيين.
شكّل استنكاف إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، (إضافة إلى حلف «شمال الأطلسي»)، وكذلك الاتحاد الأوروبي، عن دعم تركيا في المواجهة المذكورة، في بدء رسم خطّ سياسيّ جديد في تركيّا، ساهمت أيضاً في تشكّله، تراكمات كثيرة.
منها موقف الولايات المتحدة الداعم لميليشيات حزب العمال الكردستاني في سوريا، الذي تعتبره أنقرة تهديدا كبيرا لأمنها ولوحدة كيانها السياسي، ورفض خططها لتشكيل «منطقة آمنة» داخل سوريا.
غير أن النقطة الفاصلة كانت محاولة الانقلاب العسكريّ التي جرت في تموز/يوليو 2016، والتي لم تقم الدول الغربية بإدانتها بسرعة، كما أن شكوكا كثيرة انتابت الأتراك حول إمكانيّة وجود موافقة أمريكية على ذلك الانقلاب، فيما تم تداول انباء أن الاستخبارات الروسية، في المقابل، قامت بإبلاغ جهاز الاستخبارات التركي باحتمال وقوع الانقلاب قبل ساعات من حدوثه.
يمكن اعتبار اجتراء أنقرة على شراء وبدء استلام نظام الدفاع الصاروخي الروسي «أس 400» نقطة تحوّل مهمّة في العلاقات بين البلدين، من جهة، وبين تركيا والولايات المتحدة، من جهة أخرى، فقد حذرت واشنطن مرارا من إتمام الصفقة التركية – الروسيّة، وهددت بإقرار عقوبات على «حليفها» التركي.
إقرار عقوبات أمريكية على تركيا سيكون سلاحا ذا حدّين، فهو سيعني مزيدا من التباعد السياسي والعسكري بين واشنطن وأنقرة، وهذا يعني بالضرورة مزيدا من التقارب بين تركيا وروسيا، وهو أمر إذا تصاعد سيشكّل معادلة جديدة غريبة.
فتركيا، المنضوية تحت راية حلف «شمال الأطلسي»، والتي تشكل ثاني أكبر قوة عسكرية فيه بعد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ستعتمد أكثر فأكثر على التعاون العسكري مع روسيا التي لا تكفّ عن إظهار تحدّيها العلنيّ لأي تقدّم يقوم به «الناتو» في أوروبا أو في أماكن أخرى.
هذه المعادلة العسكريّة ستدفع الغرب إلى خيارين صعبين: إما التخلّي عن تركيا لصالح روسيا مع ما قد يشكّله ذلك من إخلال كبير بموازين القوى في أوروبا وآسيا، أو محاولة استعادتها مع ما يستلزم ذلك من تفهّم واقعيّ للأسباب التي دفعت إلى هذه المعادلة الجديدة.
اضف تعليقا