منذ عقود عدة، تدعي فرنسا أنها بلد التنوير والحرية والديمقراطية، وأنها رائدة التحضر والإنسانية في العالم. إلا أن ادعاءاتها هذه لا تعني أنها اكتسبت هذه الصفات بالفعل، بل على العكس من ذلك، فالمتابع للواقع ولأفعال الدولة الفرنسية في القضايا الداخلية والخارجية لابد وأن تساوره شكوك كثيرة حول صدق هذه الادعاءات.

وكان آخر هذه الأفعال الفرنسية التي تكشف الوجه القبيح للسياسات الفرنسية هو إصدار محافظة شرطة باريس يوم الخميس الماضي قرارًا بحظر مظاهرة مؤيدة للشعب الفلسطيني كانت مقررة ظهر السبت في باريس بزعم “مخاطر الإخلال بالأمن العام”.

وكتب وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، في حسابه على تويتر أن “منع التظاهرات يأتي تجنبًا لتكرار سيناريو الاضطرابات وأعمال الشغب التي وقعت في عام 2014 في العاصمة الفرنسية، وقد امتثلت محافظة شرطة باريس للتعليمات بحظر التظاهرة التي كانت مقرر بين منطقة “باربيس” في الدائرة 18 وساحة “باستيل”.

تعنت ضد داعمي القضية الفلسطينية..

لكن ما يدلل على أن حجة الشرطة الفرنسية واهية هي أن المتظاهرين سلميون، وقد تقدموا بطلب رسمي لعقد مظاهرتهم طبقًا للقانون الفرنسي، وبإمكان الشرطة الفرنسية أخذ كل الإجراءات اللازمة التي تحافظ بها على سلمية المظاهرة. ثم إن مهمة الشرطة في الأساس هي حماية الشعب، وتوفير الأمن في مثل هذه الفعاليات. وبالتالي، فإنه كان من الواجب على الشرطة الفرنسية أن تحمي الاحتجاجات من هؤلاء الذين يرغبون في تحويلها إلى أعمال شغب، لا أن تلغي الفعاليات بالكلية.

علاوة على ذلك، فإن الأربعاء الماضي، قد شهد منعًا إضافيًا من الشرطة الفرنسية لعمل تظاهرة في ساحة “أنفاليد” في باريس قبل 3 ساعات من انطلاقها، مع أن المنظمين كانوا قد حصلوا على موافقة من مديرية الشرطة تسمح لهم بالتظاهر، كما قامت الشرطة باعتقال منظمها برتراند هايلبرون، رئيس جمعية التضامن الفرنسي مع فلسطين، وحجزته تحت المراقبة لعدة ساعات.

ورغم أن هايلبرون قد اتبع الطرق القانونية للاحتجاج على قرار منع الفعالية، وأنه قد ذهب إلى وزارة الشؤون الخارجية لمناقشة موضوع الرفض، إلا أن السلطات الفرنسية استخدمت القوة معه، وفوجئ بوجود ثلاثة من رجال الشرطة أمام مدخل الوزارة يخبرونه أنه رهن الاعتقال. وقد علق الحقوقي الفرنسي قائلًا: “إن قرار الوزارة يدفع باتجاه مواجهة مجتمعية في فرنسا، وهو ما لا نريده بالتأكيد”.

وأضاف: “علينا الاستمرار في هذه المعركة الداخلية في فرنسا”، فهي معركة من أجل الرأي الفرنسي، وحرية التعبير والحقوق الديمقراطية، “التي يجب أن نكسبها من أجل التضامن مع الشعب الفلسطيني”.

تطاول على المقدسات ودعم للدكتاتوريات..

هذا التعنت الفرنسي في مسألة ترك داعمي القضية الفلسطينية ليظهروا دعمهم هذا من داخل الأراضي الفرنسية هو إشارة جديدة تضاف إلى الإشارات السابقة التي تدلل على ذات الأمر، وهو أن القيم الفرنسية هي في حقيقتها قيم خاوية ومنحازة وموجهة من قبل الحكومة.

فليس ترك الحكومة الفرنسية وتشجيعها للمتجرئين على مقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منا ببعيد. إذ اعتبر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، هذا التطاول على رسول الله حرية تعبير، قائلًا: “لن أغير حقي في حرية التعبير لأنه يثير صدمة في الخارج”. كما أن ماكرون لا يبدي أي حرج في اعتماد قانون يعتبره إعلاميو بلاده ضد حرية التعبير والصحافة، بالرغم من أنه يدافع بشراسة على حق صحيفة “مفلسة” في نشر صور كاريكاتورية مسيئة للرسول.

وتنتهج الحكومة الفرنسية حاليًا سياسة تحاول التضييق على حرية المسلمين في أكلهم ولباسهم ومعتقداتهم، توشك أن تنقلب ضد بقية الفرنسيين، بداية من الصحافيين والناشطين الحقوقيين، الذين رفع لواء الدفاع عن حريتهم عندما تعلق الأمر بصور مسيئة للرسول الأكرم.

وكما أن فرنسا هي الدولة الأوروبية الأكثر تطرفًا تجاه ما يتعلق بالإسلام والمسلمين، فإنها كذلك البلد الأوروبي الأكثر دعمًا للأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في المنطقة العربية، وعلى رأسها نظام الانقلابي عبد الفتاح السيسي، الذي انقلب على أول رئيس مدني انتخب ديمقراطيًا في تاريخ مصر. حيث توفر له الحماية الدولية، وتعقد معه الصفقات، وتتجاهل أفعاله الكارثية في ملف حقوق الإنسان والديمقراطية.

البلد الأوروبي الأكثر تطرفًا..

والغريب أن العديد من دول العالم قد سمحت لإقامة مظاهرات مؤيدة وداعمه للحق الفلسطيني، إلا أن فرنسا وحدها تعنتت ورفضت أي مظهر من مظاهر تأييد الشعب الفلسطيني، رغم زعمها أنها تكفل حرية التعبير لكل المقيمين على أراضيها. 

وفي هذا السياق، كتب زعيم حزب “فرنسا المتمردة” جان لوك ميلينشون، على تويتر أن “فرنسا الدولة الوحيدة في العالم التي تحظر فيها جميع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والمناهضة للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، ومن الواضح أن الغرض الوحيد هو إثارة الحوادث واستفزاز الديمقراطية ووصم هذه القضية”.

كذلك قالت رئيسة منظمة العفو الدولية في باريس، سيسيل كودريو، حظر الاحتجاجات بشدة، وقالت إن قرار السلطات غير مشروع بموجب القانون الدولي، خاصة عندما تستخدَم ذريعة خاطئة، مضيفة: “لقد لاحظنا تناقضًا في اتخاذ الأزمة الصحية ذريعة للمنع، لأنه جرت مؤخرًا مظاهرات حول المناخ ولم يتم منعها. إن قرار الحظر هو قرار تعسفي وغير متسق مع القرارات التي اتخذت سابقًا”.

كما أكدت كودريو إنه من واجب وزير الداخلية الحفاظ على الأمن بالطبع، ولكن أيضا ضمان الحق في التظاهر، “فليس من واجبه تقييد حرية التعبير والتجمع في الشوارع، لقد قطعت فرنسا تعهدات دولية، ومرة أخرى لا تحترمها”.

كذلك تساءلت جمعية “أورو ـ فلسطين” عن موقف فرنسا الذي يسمى ببلد “حقوق الإنسان” الرافض للتظاهر، في الوقت الذي تجري فيه مظاهرات تضامنية ضخمة مع فلسطين والقدس وغزة في جميع أنحاء العالم.

إذن، فإن الموقف الفرنسي الرافض لعمل وقفات داعمة للقضية الفلسطينية غير مبرر بحال من الأحوال، كما أنه موقف جديد يضاف إلى المواقف الأخرى التي تثبت أن القيم الفرنسية ما هي إلا بروباجندا إعلامية لا أساس لها على أرض الواقع.