كنت أرتب لسفر يوم ما وإذا بنوبة غير مبررة من البكاء تنتابني، قبل سفري بأيام كان المحيطون بي يعرضون على المساعدة في الوقت الذي كنت أرى فيه أن الأمر لا يستدعي، فاجاءني اتصال صديقة لي حينها تخبرني أنها تحت منزلي وأنها ستقضي معي ساعة لتساعدني في أي شئ أحتاجه، لم أستطع ردها فقد جاءت إلى منزلي وطلبت مني أن أسند إليها أية مهمة، لم يدهشني يومها شيء قدر ما أدهشني تبدل حالي بعد مجيء صديقتي من البكاء إلى الفرح، لم أكن أعرف أنني بحاجة لوجود أحد معي في هذه الساعات، ليس لوجود أمور يصعب علي إنجازها بمفردي لكنني أدركت أنني لا أريد فقط أن أكون وحدي.
كان هذا الموقف هو البداية التي جعلتني أفكر في (حاجاتنا التي لا ندركها)، كونها حاجة قد يجعلنا أحيانًا نظن أن إدراكها من البديهيات بالرغم من أننا كثيراً ما نجهلها.
قد نصرخ أحياناً صراخ الطفل الرضيع الذي يحتاج إلى أمر ما، أما الرضيع فيحول بينه وبين حاجته لسانه الذي لم ينطلق بعد، وأما نحن فقد نصرخ وقد حال بيننا وبين حاجاتنا (أننا لا ندركها). يصرخ الرضيع معطياً أمه إشارة البدء كي تبدأ في تخمين سبب انزعاجه، دمعات وصرخات عالية، أما نحن فصراخنا أحيانا لا دمع فيه ولا صياح، إنما فعال لا مباشرة فيها ولا منطقية.
تحكي لي صديقتي كم تكون صبورة على أولادها في غياب زوجها، ثم ما إن يحضر حتى تتعجب من عدم قدرتها على إخفاء تبرمها منهم، تبدأ في إخبار زوجها بتفاصيل يومها الطويل وقد تبدأ أحياناً في التأوه من آلام ظهرها وقدميها التي لم تؤلماها طوال النهار، لا تفهم هي ما سر تحولها وقد يضج الزوج بشكاية زوجته، والأمر جله ما هو إلا زوجة تحتاج إلى أن تسمع من زوجها (كلمة حلوة).
أذكر صديقتي التي أخذت وقتاً طويلاً لتفسر بعض حالات العصبية التي تنتابها لتدرك أن الجوع ونقص النوم يسببان لها حالة مزاجية سيئة تماماً كالأطفال، تنتهي إذا شعرت بالشبع أو خلدت إلى النوم قليلاً.
هذا الغبار الذي ينجلي عن حاجاتنا فيحيلها واضحة جلية أمر محوري في فهم أنفسنا ونجاح علاقاتنا. كان فارقاً جداً بالنسبة لي عندما كنت ألاعب أختي الصغيرة أحد الألعاب التي أجيدها والتي بدأت تلعبها حديثًا، عادة تحب إذا كنت تجيد لعبة ما أن تلعب مع شخص يجيدها هو الآخر، لن يكون لديك صبر كاف لتلعبها مع مبتدئ، قبل أن نبدأ لخصت لي أختي حاجتها في عبارة (متزهقيش مني)، ثم كانت هي العبارة. لعبت معها بصبر وهدوء لا لشيء إلا لهذه العبارة التي قالتها، ظللت أتذكر أبي الذي كان يلاعبني نفس اللعبة في صغري وكم تحملني وقتها! استمتعت يومها باللعب مع أختي واكتشفت أنها ستكون ماهرة في هذا اللعبة وينقصها بالفعل شخص يصبر على تعلمها.
حاجاتنا الدفينة التي تخفيها عنا ضغوطات الحياة وتسارع الزمان وقلة التدبر والجهالة بالذات، بحاجة إلى انكشاف، ينصح معالجو المشكلات النفسية بالتركيز على عالم الأفكار داخلنا واصطياد الفكرة قبل تلاشيها، كمن يضع يده على زر pause في جهاز التحكم ليتمكن من رؤية مشهد معين أو صورة بعينها بشكل جيد، فتضغط على زر التوقف في المواقف التي تمر بها كي تسأل نفسك عن السبب وراء تصرفك وما كنت تنتظره من الغير وما كان فارقًا بالنسبة لك، كي تدرك أن إجاباتك تشكل حاجاتك.
للوصول لنفس الغاية انشغل كثيرمن علماء النفس بتقديم إجابات واضحة تساعد في فهم حاجات الإنسان التي تقف خلف سلوكه، أبرزهم أبراهام ماسلو الذي طرح ما يعرف بهرم ماسلو للحاجات، حدد فيه الحاجات التي تشكل قاسماً مشتركاً لبني البشر على اختلافاتهم، تقسم هذه النظرية احتياجاتنا على مدرج هرمي لا يمكن الانتقال فيه من جزء إلى الذي يليه إلا بتحقيق الجزء الذي يسبقه بدءاً من الحاجات الأساسية كالغذاء والملبس في سفح الهرم انتهاء بتحقيق الذات في قمته.
هذا فيما يشكل قاسماً مشتركاً بين البشر على اختلافاتهم، ومع ذلك تختلف حاجاتنا بشكل كبير حسب الأدوار الاجتماعية التي نؤديها والمراحل العمرية التي نمر بها بشكل عام بالإضافة إلى التحديات التي قد يواجهها كل منا فيهما على المستوى الشخصي.
إخراج حاجاتنا إلى النور مرحلة ضرورية تلي إدراكها، ليس من الحنكة أبداً أن نترك مهمة فهم طباعنا واحتياجاتنا لنباهة الآخرين وملكتهم في فهم الآخرين، لا يمتلك الجميع ذات المهارة، فلا يجب أن نتصور أنه من الطبيعي أن يفهمنا و يشعر بنا الآخرون.
بعض حاجاتنا من السهل أن يتوقعها غيرنا نتيجة معرفتهم الجيدة بنا لكن بعضها الآخر يصعب معرفته إلا إذا أوضحناه نحن. تخبرني صديقتي عن حاجتها لاقتناء بعض الأشياء والتي ظلت لسنوات تحبسها لأنها تعلم أنه ليس بمقدور زوجها أن يلبيها لها، ثم قررت أن تخرجها إلى النور بعدما تبين لها أن إخفاءها يجعل زوجها مستنكرًا لها إذ لم يعتد سماعها، لذا يصبح التعبير عن حاجاتنا في حد ذاته هدفًا حتى وإن كان تحقيقه أحيانًا غير ممكن.
هذه الزوجة التي ما إن تُسئل عن المكان الذي ترغب في الخروج إليه فتقول (أي مكان)، هذا الزوج الذي تسأله زوجته ماذا تحب أن تأكل على الغذاء اليوم فيقول (أي شيء)، ربما على هؤلاء الذين لا يبذلون جهدا في التعبير عن أنفسهم وتفضيلاتهم ورغباتهم ألا يحزنهم تجاهل الآخرين لاحتياجاتهم ولا افتئاتهم على حقوقهم فقد ظن المحيطون مع الوقت أنهم بلا حاجة وأن كل شيء بالنسبة لهم غير مهم.
يتفاجأ الزوجان وهما في نقاش محتدم كانا يتعاتبان فيه على أمر ما بهذا الكم من التراكمات التي يكنها كل في صدره للآخر، ربما أخرجتها كلمة غير لائقة من أحدهما لتحدث انفجاراً وسط ذهولهما وإنكارهما، يظن كل منهما بعدها أنه شخص سيء أو هكذا يحاول شريك حياته أن يخبره، وقد تحولا معاً إلى جَمل يخزن ما كان يجب أن يخرج في وقته.
يسأل ابني عن حلوى وجدها (لمن هذه؟) فيعرف أنها لي (ماما)، فيبتهج مسروراً قائلًا (إذًا سآكلها)، يعلم جيداً أن أمه تعطيه بسهولة ما هو لها، وهكذا كل نماذج العطاء التي يشار لها بالبنان، ينسى المحيطون بهم أنهم أناس طبيعيون بحاجة إلى الأخذ كما هم دائماً قادرون على العطاء. فلا يعني حب العطاء أن تفرط في نفسك ولا في حاجتك.
عبارة (أنا أحتاج) من أكثر العبارات التي أجد تعاوناً واضحاً بعدها من أبنائي، تستطيع هذه العبارة أن تشعر من أمامك بأنه شخص يملك شيء تحتاجه أنت، يعطيه هذا شعور بالقوة وتخبر بها من أمامك بأنه رقم فارق في حياتك. تستطيع أن تفعل (أنا أحتاج منك) ما لا يمكن ل(لا حاجة لي بك) أن تفعله.
يعتمد كتاب مثل رجال من المريخ ونساء من الزهرة بشكل أساسي في التقريب بين كوكبي الرجال والنساء على (إيضاح حاجات كل منهما) التي يجب على كل منهما أن يعرفها عن الآخر، يحدد حاجات ست للرجل ومثلها للمرأة اعتماداً على أن أساس العلاقات معرفة الحاجات، التي بها يمكنك أن تقبل التصرف النابع من حاجة وأن تسعى طوال الوقت لإيفائها واحترامها.
تلك نقاط التماس مع نفوسنا التي نشعر فيها بخواء أحياناً، يستطيع فهم جيد لنفوسنا وحاجاتنا ورغباتنا وتفضيلاتنا أن يملأها، يتشكل حينها نسيج روح متصل بداخلنا يسمح بمرور إشراقة تعلو وجوهنا، وذكر حاجاتنا لغيرنا لا ينتقص أبداً من قدر أحدنا بل هو سبب لسد فجوات طالما سببت لنا ألماً، واعتراف بالضعف الذي يتسق مع بشريتنا، كما هو إعلان لغيرنا عن رغبتنا أن تستمر حياتنا معهم بدلاً من أن نسعى للبحث عن تلبية حاجاتنا بمنأى عنهم.
اضف تعليقا