“التحقت متأخراً بالتظاهرات بعد يومين من انطلاقها، ولا أعرف من أطلق شراراتها، لكنني وجدت أنها توافق ما بنفسي، بسبب سوء حالتي المعيشية ووضع إحدى شقيقاتي الذي يتطلب علاجاً مكلفاً”، بهذه العبارات لخص حسين الربيعي دوافعه للمشاركة في التظاهرات التي بدأت في العراق في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الحالي وسرعان ما تمددت بعد قمع السلطات لها وسقوط ضحايا، قبل أن تهدأ وتيرتها بعدما دخلت أسبوعها الثاني وبالتزامن مع حديث عن “هدنة” بين المحتجين والسلطات التي فشلت في استخدام سلاح المؤامرة لإرهاب المتظاهرين. 

الربيعي، الذي فقد والده باعتداء إرهابي بواسطة سيارة مفخخة عام 2009 استهدفت مبنى وزارة العدل وسط بغداد، يبلغ من العمر الآن 19 عاماً ويعيل أما وأختين، وافق على الحديث مع “العربي الجديد” لشرح دوافعه للمشاركة في التظاهرات في وقت اعتذر كثيرون خوفاً من آلة القمع المفرطة التي تواجه بها قوات الأمن المتظاهرين.

يقول الربيعي، الذي يعمد إلى تغطية وجهه أثناء خروجه للمشاركة في الاحتجاجات: “أنْ أكون ملثماً بالتظاهرة للمطالبة بحقي أفضل من أن ألثم وجهي وأغطيه خجلاً من الناس لأتسوّل المال من المصلّين لعلاج فطومة (في إشارة إلى أخته)”. وينوّه إلى أنه راجع كثيراً للحصول على وظيفة ولم يفلح وعمل بالبناء، لكن الإسمنت تسبّب له بحساسية، وخسر ما حصل عليه من عمله فيها على العلاج، وتوجه إلى مكاتب تابعة لأحزاب ولم يحصل على مساعدة، بل طلب منه فصيل مسلح التطوع معه لكنه رفض، ليس جبناً بل لأن أمه رفضت. وعن تفاصيل التظاهرات يقول “يضفي الليل ستراً لنا”، مفسّراً سبب تحولها إلى ما بعد غروب الشمس وانتقالها من الساحات العامة وسط بغداد إلى مناطق أخرى شرقها، بسبب القمع غير المسبوق الذي مورس ضدهم، ولتقليل فرص التعرف إلى وجوههم واعتقالهم من منازلهم فجراً كما يحدث أخيراً.

من جهته يقول أحمد الساعدي (اسم غير حقيقي)، الذي شارك بدوره في الاحتجاجات، إن “معظم الذين شاركوا لا يملكون حتى ثمن الحلم”، مضيفاً أن “الساكنين في المنازل العشوائية التي هدمتها الحكومة، وأصحاب البسطات الذين تم طردهم وتغريم بعضهم، والعاطلين من العمل هم 90 في المائة من المتظاهرين، وأغلبهم لا يعرف حتى المصطلحات التي استخدمها فالح الفياض مستشار الأمن الوطني، في شرحه سبب التظاهرات”، مستدركاً بالقول “طحنا (سقطنا) فخرجنا ولم تكن نزهة وسنستمر بالخروج”.

وفي السياق، يقول سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، إن التظاهرات عبارة عن “هبة شعبية”، مبيناً في حديث مع “العربي الجديد”، بأن “الذين شاركوا بهذه التظاهرات، هم شباب تصل أعمارهم إلى 16 عاما وحتى الثلاثين عاماً، والمناطق التي خرجوا منها، تؤكد أنه ليس لهم أي علاقة بحزب البعث ولا أي دافع أو ارتباط سياسي آخر، ومطالبهم كانت حقة، وهي عبارة عما يفتقدونه من خدمات ومقومات أساسية للحياة”.

وبرأيه فإن “التظاهرات خرجت بهذه الصورة الغاضبة، كمحصلة لسياسات اقتصادية واجتماعية اتبعتها الحكومات السابقة، أدت إلى فجوة كبيرة بين الذين يمتلكون وبين الذين لا يمتلكون، وهذا سبب الفساد والمحاصصة بالعملية السياسية”. ويلفت إلى أن “هناك جهات داخلية وخارجية تحاول استغلال هذه التظاهرات من أجل أهداف وأجندات، لكنها تظاهرات شعبية خرجت من أجل العيش الكريم، فجوهر الاحتجاجات هو الواقع المزري للفئات المجتمعية المهمشة”.

وحول المستوى التعليمي للمتظاهرين يشير إلى أن “أغلب المتظاهرين لا يملكون شهادات جامعية، فيما كثير منهم من تاركي الدراسة بسبب وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، وبعضهم عاطلون عن العمل، وفيهم أيضاً من حملة الشهادات الجامعية أو حتى الشهادات العليا الذين أكملوا دراستهم ولا يجدون وظائف”.

من جهته، يؤكد أحمد الهاشمي، وهو أحد أعضاء منظمة بغداد الناشطة في مجال الحريات والحقوق المدنية، لـ”العربي الجديد”، أن نواة التظاهرات كانت من المناطق الفقيرة في بغداد، مثل الصدر والشعب والحسينية وحي أور والشعلة والبلديات والبنوك وتحديداً في مناطق العشوائيات بتلك المناطق التي أنشئت في السنوات الماضية.

ويوضح أن الجميع كان يتوقع أن هذه المناطق ستنفجر يوماً ما، لكونها عبارة عن خزان بشري بلا خدمات ولا تعليم ولا صحة جيدة يفتك بها العوز والفقر، وابتليت بأنها صارت وقوداً لمعارك كثيرة سواء في العراق ضد تنظيم “داعش” ومن قبله تنظيم القاعدة أو حتى في سورية حيث تم استغلال كثير منهم بسبب حالتهم السيئة للقتال هناك مقابل المال. وبرأيه فإن “الجميع الآن، من القادة والساسة، يعترف بذلك وكانوا يعلمون لكنهم لا يهتمّون بها إلا بمواسم الانتخابات”.

وعلى الرغم من الربط بين “الهدنة” وبين تراجع الاحتجاجات في اليومين الماضيين، إلا أن الناشط العراقي كرار الجيزاني، لا يوافق على ذلك. ويلفت إلى أنه “سقط آلاف الجرحى ومئات المعتقلين، ما جعل البعض متردداً بالخروج خوفاً من القتل أو الاعتقال أو الإصابة، كما أن إعلان الحكومة فتح أبواب التوظيف وتقديم طلبات المنح للمحتاجين والمعوزين سحب الكثير من الشارع، وحوّلهم إلى طوابير على أبواب 7 وزارات ودوائر، وهذا دليل واضح على أن من تظاهر ضدهم ليس أميركياً ولا صهيونياً ولا سعودياً، ولا يتبع القوى الإمبريالية، كما سمعنا من المسؤولين في الحكومة والأحزاب”.

وعلى الرغم من طرح السلطات العراقية نظرية المؤامرة بشكل رسمي عند حديثها عن سبب اندلاع التظاهرات التي عمّت بغداد ومدن وسط وجنوبي البلاد، إلا أن هذا “السلاح” ثبت عدم نجاعته، إذ إن جميع التسريبات تؤكد أن الحكومة استجابت منذ مساء الثلاثاء، لطلب زعماء قبائل التقى بهم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في بغداد، لمبادرة تقضي بإطلاق سراح جميع من تم اعتقالهم في الأيام الماضية وعددهم بالمئات، يقبعون في سجون عدة، أبرزها سجن التسفيرات وسجن القناة وسجن الأمن العام في المشتل في العاصمة، عدا عن سجون ومراكز توقيف في ذي قار والقادسية وواسط وميسان، عدا عن إصدار قرارات جديدة حاولت من خلال أغلبها التقليل من سخونة الشارع.

وبحسب مسؤول عراقي رفيع المستوى في مكتب رئيس الوزراء، فإن عدد المعتقلين بلغ أكثر من 680 معتقلاً جميعهم متظاهرون وناشطون، وسيتم الإفراج عنهم في مبادرة من الحكومة تهدف لتهدئة الأوضاع، فيمنح المتظاهرون الحكومة فرصة لإثبات جديتها في الإصلاح وتغيير النمط الحالي. ويلفت إلى أن الحكومة تريد أن تستغلّ التظاهرات في تنفيذ خطوات وإصلاحات كانت تعارضها قوى سياسية عدة في البلاد، من بينها التعديل الوزاري وفتح ملفات الفساد المركونة في أدراج القضاء. ويضيف أن هناك بوادر إيجابية في هذا الشأن، إثر وساطات عدة لهذه المهلة، التي ستهيئ أجواء آمنة ومستقرة في زيارة أربعينية الإمام الحسين، التي تصادف في 20 أكتوبر الحالي.

ويؤكد المسؤول أن المبادرة تشمل إجراءات محاكمة لكل من تورط بإطلاق النار على المتظاهرين، من خلال تحقيق بدأ منذ يوم الاثنين الماضي، وبعلم القوى السياسية المختلفة، إضافة إلى تقديم تعويضات كاملة لذوي الضحايا، مادية ومعنوية، عبر اعتبار الضحايا “شهداء”، فضلاً عن تقديم التعويضات للجرحى.

وبدت بغداد يوم الثلاثاء مستقرة، في أول يوم هادئ بعد أسبوع من التظاهرات، وهو المشهد الذي تكرر أمس الأربعاء. كما شهدت وزارات العمل والشؤون الاجتماعية والبلديات والتخطيط والدفاع والداخلية في الجنوب، توافد آلاف الشبان عليها بعد إعلان الحكومة قرارات عدة، من بينها إعادة تجديد عقود المفسوخة عقودهم، والتسجيل بالمنح المالية التي أعلنتها الحكومة للعاطلين من العمل وقدرها 150 ألف دينار (نحو 138 دولاراً). كما باشرت دوائر أخرى مثل الرعاية الاجتماعية، استقبال طلبات ما يطلق عليهم بالعراق “الأسر المتعففة” (الأسر المحتاجة).

وسط كل ذلك ما زالت الإجراءات الأمنية نفسها في بغداد ومدن جنوبي البلاد، في ظلّ التأكيد أن قيادة عمليات الفرات الأوسط باشرت فعلياً خطة تأمين زيارة الأربعين، من خلال فرض الأطواق الأمنية وإغلاق الطرق الفرعية وتحديد مواكب المشي للزائرين المتجهين إلى كربلاء.

ووفقاً لمسؤول أمني عراقي، فإن الإجراءات في بغداد تمثلت باستبدال القوات التي اصطدمت مع المتظاهرين في الصدر والشعب والحسينية ومحمد القاسم وأور بقوات أخرى، مع الإبقاء على نفس كثافة الانتشار، خصوصاً في محيط المؤسسات والدوائر الرسمية. وأشار إلى أن قرار الاستبدال يأتي بعد مقتل جندي وإصابة أربعة آخرين، بينهم ضباطان بهجوم مسلّح، يرجح أن منفذيه من ذوي أحد ضحايا التظاهرات.

من جهته، يكشف الوزير الأسبق في الحكومة، القيادي في الحزب الشيوعي العراقي مفيد الجزائري، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أن “الأزمة الحالية تتطلب معالجات حقيقية، وحلولاً مقنعة للمتظاهرين والشعب العراقي، وغير مؤقتة. ولا أعتقد أن الإصلاحات الشكلية المرتبطة بمطالب التعيينات والخدمات والسكن تجدي نفعاً، لا سيما أن الشعب العراقي لم يعد يثق بالوعود التي تتحدّث عنها الحكومة بعد كل أزمة”. مضيفاً أنه “آن الأوان لمجيء حكومة منبثقة من شعور المتظاهرين بأهمية قمع الفاسدين وليس المحتجين”.

وبشأن الخطوات التي ستسهم في تهدئة الوضع الحالي، يلفت الجزائري إلى أن “المتظاهرين السلميين يريدون أن يلمسوا محاربة الفساد، عبر إيداع كبار المسؤولين السياسيين المتورطين بالفساد المالي في السجن، وإلا فستستمر التظاهرات”.

وأرغمت التظاهرات العراقية الحكومة والقوى السياسية على القبول بقرارات وخطوات لم تكن لتصوّت عليها من قبل، مثل التصويت على إلغاء مكاتب المفتشين العموميين، أحد أبرز ملفات الخلاف، وتجميد عمل مجالس المحافظات، وقراءة مشروع “الكسب غير المشروع” المعروف باسم قانون “من أين لك هذا؟” بغية التصويت عليه.

بالإضافة إلى ذلك، فقد صوّت البرلمان، يوم الثلاثاء، على عدد من القرارات الهادفة إلى تهدئة المتظاهرين وتخفيف الاحتقان في الشارع، لا سيما أن أغلبها جاء متناغماً مع الشعارات التي رفعها المتظاهرون خلال احتجاجاتهم، التي انطلقت مطلع الشهر الحالي. واعتبر البرلمان قتلى الاحتجاجات من المتظاهرين والقوات الأمنية “شهداء”، مصوّتاً أيضاً على الوقف الفوري لحملات إزالة التجاوزات السكنية، وبناء مجمعات سكنية للمتجاوزين، فضلاً عن منح المحاضرين في وزارتي التربية والتعليم العالي عقوداً رسمية.

وقرر البرلمان التصويت أيضاً من حيث المبدأ على تجميد عمل مجالس المحافظات، وإلغاء مجالس المحافظات والبلدات، وإعادة ذوي العقود المفسوخة من وزارتي الدفاع والداخلية، وفتح باب التطوع أمام الشباب إلى وزارة الدفاع. كما صوّت مجلس النواب على شمول جميع الفقراء بمرتبات شهرية، وإطلاق منحة مالية للطلبة، وإعفاء المزارعين من مبالغ بدلات الإيجار، وإنصاف عائلات المغيبين والمفقودين في موازنة 2020، وتعويض المتضررين من الإرهاب والعمليات العسكرية، ومنح قروض ميسرة لإعادة تشغيل المصانع المتوقفة، فضلاً عن إلغاء مكاتب المفتشين العموميين في الوزارات العراقية.

في هذه الأثناء، أكد مسؤول عراقي بوزارة الصحة أن عدد الضحايا الإجمالي بلغ 165 قتيلاً حتى الآن، وجرح أكثر من 6500 شخص سُجّل دخولهم مستشفيات البلاد، غالبيتهم غادروها بعد تلقيهم العلاج، مؤكداً أن الإصابات تراوحت بين طلق ناري ورصاص مطاطي وقنابل غاز. وكشف أن بغداد حلّت أولى بعدد الضحايا بواقع 66 قتيلاً، ثم ذي قار بواقع 30 قتيلاً بينما توزع الآخرون على مدن عدة أخرى جنوبي البلاد.