متى يستقيل الوزير

صباح يوم السبت ٩ مارس ٢٠١٩ ورد خبر استقالة مجلس الوزراء في فنلندا بكامله ؛بسبب الإحساس بالفشل في توفير الرعاية الصحية المناسبة للمواطنين ، واستقبل المصريون الخبر باعتباره من الطرائف التي تتناسب مع مقولة عبد الفتاح السيسي في مؤتمر القمة العربية الأوروبية بأن الإنسانية الأوروبية تختلف عن الإنسانية المصرية ، وكان بذلك يرد على سؤال أحد الصحفيين مبررًا  تكرار تنفيذ عقوبة الإعدام في حق المعارضين بمصر في حين أن عقوبة الإعدام قد اختفت من الدول الأوروبية بحكم القانون. وجاء رد السيسي لترسيخ مفهوم أن المنطقة العربية ومنها مصر تعتبر متخلفة ولاتقارن بالمجتمعات الأوروبية المتقدمة .

وكان من العجيب أنه في نفس اليوم السبت ٩ مارس يرد خبر وفاة ١١ طفل رضيع في تونس بسبب تعرضهم لإجراء طبي خاطئ يعتقد أنه تسمم بالدم في أحد المراكز الحكومية ، وأن وزير الصحة التونسي قد استقال نظرا  لفداحة الكارثة التي اعتبر نفسه مسئولا عنها .ويقول مراسل بي بي سي في تونس “إن المستشفيات الحكومية تواجه صعوبات كبيرة منها تراجع مستوى الخدمات الصحية ونقص الأدوية وهجرة الأطباء إلى خارج البلاد”..

كانت العلاقة بين الخبرين مثيرة للدهشة، لأن تونس دولة عربية وليست أوروبية، وبالتالي وبحسب كلام السيسي فهي تخضع لمعايير الإنسانية العربية تماما مثل مصر، فلماذا استقال وزير الصحة التونسي لوفاة عدد من الأطفال في بلده، وهل هذا الموقف قابل للحدوث  في مصر ؟…

هذا التساؤل المنطقي والواقعي ينتقل بنا إلى حوادث كثيرة تعرّض فيها المرضى للموت داخل المستشفيات الحكومية والمراكز الصحية المصرية :

أولا : حادث وفاة مرضى الغسيل الكلوي بمستشفى ديرب نجم  بمحافظة الشرقية وهي من أكبر محافظات شمال مصر . ففي صباح يوم السبت ١٥ سبتمبر ٢٠١٨ كانت كارثة تعرُّض مرضى الغسيل الكلوي بالمستشفى لحالة من الاضطراب المفاجئ في التنفس اعتُقد أنه تسمم دموي، واختلال بضغط الدم ،مع حالة من الصدمة الجماعية وسط حالة من الاضطراب الفني والإداري، وكانت النتيجة وفاة عدد من المرضى بين ٣ إلى ١٨ مريض بحسب اختلاف التقديرات ونقل أكثر من ٨٠ مصاب إلى المستشفيات الجامعية للعلاج . كانت كارثة صحية وإنسانية كبيرة خاصة وأن هذا الحادث يعني توقف المركز عن العمل وما يترتب عليه من  أزمة تقديم الخدمة لعشرات المرضى أصحاب الحالات الحرجة . ومن المعروف أن مريض الفشل الكلوي  يحتاج إلى المركز ثلاثة مرات أسبوعيا لتلقي جلسات الغسيل الكلوي وأن المركز يعمل ثلاثة ورديات يوميا …. وكما هو معتاد فقد صدر قرار من وزيرة الصحة بغلق المركز ، وباشرت النيابة التحقيقات،  وعاش قرابة المائة ألف من مرضى الفشل الكلوي حالة من القلق وعدم الثقة في مراكز الغسيل الكلوي على مستوى الجمهورية . صدرت تعليقات من الأطباء المختصين توضح أن هذه الحالة من الإصابة الجماعية تعني وجود خلل في الصيانة وعدم كفاءة محطة المياة الخاصة بوحدة الغسيل الكلوي والتي قدمت لها صيانة دورية في اليوم السابق مباشرة وهذا يعني فشل في الإجراءات وعدم إجراء تجارب تشغيلية واختبارات الصلاحية اللازمة قبل استقبال المرضى.

بعد الحادث بأسبوعين وقفت وزيرة الصحة معتلية  منصة مؤتمر يحضره السيسي، مُشيرةً إلى كارثة مستشفى ديرب نجم وكأن الأمر لا يعنيها، وبدلا من الاعتراف بالتقصير وإعلان مسئوليتها فقد راحت  تتهم عموم الأطباء بأنهم السبب في تدهور الخدمات الصحية بمصر حيث أن  ٦٠ % من الأطباء قد تركوا مصر وسافروا للعمل بالخارج ، وبهذا التصريح ألقت الوزيرة بتهمة الفشل عن كاهلها، خاصة وأن السيسي تابع كلمتها بهدوء تام واستمرت هي في كلمتها بصورة طبيعية ، وبالطبع فقد استجاب الإعلام وأخذ ببداية الخيط حول سفر الأطباء ، وأعلن رئيس الوزراء عن فكرة منع سفر الأطباء خارج مصر ، وناقش البرلمان فكرة العجز في عدد الأطباء وطالب بفتح كليات جديدة للطب ، ولم يفكر أحد في مواجهة أسباب مشكلة هجرة الأطباء، أو معرفة المسئول عن وفاة المرضى . وخرجت الوزيرة ببساطة من الكارثة غير عابئة بكل هؤلاء الضحايا .ومن المعروف أن المستشفيات الحكومية في مصر تواجه صعوبات كبيرة منها تراجع مستوى الخدمات الصحية ونقص الأدوية وظهر ذلك واضحًا من خلال استبيان أجراه المجلس القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وهو هيئة حكومية، أعلن فيه أن ٦١ % من المصريين أقروا بسوء الخدمة في المستشفيات الحكومية .

ثانيا : حادث وفاة طبيبة صعقا بالكهرباء بمستشفى المطرية حيث أن طبيبة شابة بالدراسات العليا بالجامعة ، حاولت استخدام حمامات سكن الطبيبات بمستشفى المطرية التعليمي بالقاهرة،  تأخرت كثيرا داخل الحمام ،  ووسط قلق زميلاتها، دخلوا عليها ليجدوها وقد فارقت الحياة صعقا بالكهرباء من سخان المياه ،  وعلى الفور صدر بيان من وزارة الصحة يعلن أن الوفاة طبيعية وأن الطبيبة ليست من العاملين بالمستشفى وأنها كانت في زيارة لزميلاتها!.

كان بيان الوزارة صادمًا للرأي العام ولعموم الأطباء، خاصة وأن النيابة قد أمرت بالتحفظ على مسئولي الصيانة  بالمستشفى بتهمة الإهمال والتسبب في تعرض الطبيبة للوفاة صعقا بالكهرباء، ولم تعتذر وزيرة الصحة عن الكذب في بيانها،  ولم تحاول الوزيرة حتى مجرد التفكير في حل مشكلة آلاف الأطباء بالدراسات العليا و المحرومين من الإقامة بالمستشفيات التي يدرسون بها .

ثالثا: حادث سقوط مصعد مستشفى بنها الجامعي :   ففي شهر يناير ٢٠١٨ كان الحادث الذي راح ضحيته ٧ مواطنين  وعدد كبير من المصابين . وقتها خرج عميد كلية الطب متنقلا بين جميع الفضائيات مبررا أنه غير مسئول و أن المصعد تمت له أعمال الصيانة قبل الحادث بيومين ،وأن العامل لم يكن موجودا بداخله ،وأن الزحام كان شديدا. وتقدَّم مدير المستشفى باستقالته ليكون هو كبش الفداء في حين لم يتأثر وزير التعليم العالي التابعة له المستشفى ومرت الكارثة وهو باق في مكانه وكأن الأمر لا يعنيه!.

وفي حين تتواتر الأنباء من تونس عن مطالبة المعارضة البرلمانية للوزارة  بالاستقالة بكاملها لفشلها في تقديم الرعاية الصحية المناسبة للمواطنين،  فإن حال الصحة في مصر في تدهور مستمر حيث أنه لا توجد محاسبة حقيقية والوزير باق طالما أنه يعلن ولاءه و انصياعه الكامل لتنفيذ توجيهات و تعليمات وتكليفات الرئاسة.

وكانت الكارثة الأخيرة في حادث انفجار القاطرة في محطة مصر بالقاهرة صباح يوم الأربعاء ٢٧ فبراير الماضي  وسقوط عشرات الضحايا والمصابين كفيلة برحيل النظام كله ، وبرغم الذكريات المصرية عن مقولات مشهورة مثل ” طول ما الدم المصري رخيص ، يسقط يسقط أي رئيس ” ، إلا أن النظام المصري تغاضى عن كل هذا ، و تم تقديم كبش الفداء ممثلا في وزير النقل فقط والذي قدم استقالته بعد مشادة كلامية مع رئيس الوزراء شاهدها المواطنون وسط تبريرات إعلامية ممنهجة لإبعاد شبهة التقصير والفشل عن النظام وقيادته ، لتمر الكارثة مثل غيرها ويسقط ضحايا الفشل والإهمال كما سقط غيرهم على اعتبار أن مصر بها إنسانية بمعايير مختلفة عن باقي دول العالم كما أعلن السيسي من قبل .

======

دكتور/ مصطفى جاويش

16 مارس 2019