على مدى سنوات، شكل مجلس الدولة الليبي غصة في حلق معسكر مجرم الحرب الذي يسيطر على الشرق الليبي، خليفة حفتر. ذلك أنه يضم أفرادًا يمثلون معسكر الثورة، التي تسعى لتأسيس دولة ديمقراطية، يحكمها الشعب عن طريق اختيار مَن يمثلونه عبر الانتخابات.

لكن في المقابل، فإن رئاسة مجلس النواب الليبي خاضعة لعقيلة صالح، الذي يعتبر هو الوجه السياسي لحفتر، وأحد أبرز معاونيه. كما أن مقر انعقاد مجلس النواب هو مدينة طبرق، الواقعة تحت سيطرة ميليشيات حفتر. ولذا، فإن أعضاء البرلمان الليبي في تهديد دائم من قوات حفتر إذا ما أرادوا اتخاذ أي قرار من شأنه أن يعرقل مشروع حفتر التخريبي، هذا فضلًا عن عرقلة حفتر للعديد من جلسات البرلمان التي لا تروق له.

ولأن القوانين الليبية السارية تعطي حقوقًا وصلاحيات لمجلس الدولة بطبيعة الحال، بل وتعطل قرارات “النواب” أحيانًا إذا لم تأخذ موافقة مجلس الدولة؛ فإن معسكر حفتر استهدف مجلس الدولة عبر عدة طرق كي يحيد تأثيره في الساحة الليبية. من ذلك على سبيل المثال، التجاهل التام الذي أبداه عقيلة صالح لمجلس الدولة في مسألة إصدار قانون الانتخابات.

وقد اعترض مجلس الدولة على هذا التجاهل غير الدستوري أكثر من مرة، حيث عبر رئيس المجلس، خالد المشري، عن رفض مجلسه إصدار مجلس النواب بـ”شكل أحادي” قانون الانتخابات الرئاسية، مشيرًا إلى عدم اعترافه به، وموضحًا أن تفرد مجلس النواب بإصدار قوانين الانتخابات يعد أمرًا مخالفًا لنصوص الاتفاق السياسي.

وقال المشري حينها في عدة مناسبات إن الاتفاق السياسي صيغ بعد التوافق عليه بهدف خلق توازن بين الأطراف في البلاد، مشيرًا إلى أن مجلس النواب قد ضمنه في الإعلان الدستوري، ومؤكدًا أن “تجاوز مجلس النواب للاتفاق وتفرده بإصدار قانون الانتخابات الرئاسية، يعني مخالفته للإعلان الدستوري الذي ينص على ضرورة توافقه مع المجلس الأعلى للدولة على إصدار القوانين كافة وليس قوانين الانتخابات فقط”.

 

استبعاد مجلس الدولة من تشكيل الحكومة

وكما هو معلوم، فإنه كان من المفترض أن تُعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي؛ إلا أن تمرد معسكر حفتر على القوانين الليبية، وتهديده للجنة العليا للانتخابات حال دون إنجاز هذا الاستحقاق.

ومن هنا، استمر معسكر حفتر في محاولة خلط الأوراق على الساحة الليبية، حيث تتحرك رئاسة مجلس النواب بأسرع ما يمكن للإطاحة بعبد الحميد الدبيبة، من رئاسة حكومة الوحدة الوطنية، والانفراد بتعيين حكومة جديدة، دون التوافق مع المجلس الأعلى للدولة.

وذلك عبر قرار “النواب” الأخير استبعاد شرط “تقاسم مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، تزكية المرشح لرئاسة الحكومة”. حيث صرح المتحدث باسم مجلس النواب، عبد الله بليحق، أن 122 نائبًا حضروا جلسة استبعاد مجلس الدولة، وصوت 30 منهم لصالح استبعاده، بينما صوت 21 ضد استبعاده، ولم يتضح موقف 71 عضوًا الآخرين، هل امتنعوا عن التصويت، أو غابوا عن الجلسة، أم هناك تضخيم في عدد الحاضرين، كما حدث في أكثر من جلسة سابقة.

 

مجلس الدولة يرفض تحركات معسكر حفتر

وبعد ساعات من التصويت المزعوم لمجلس النواب، أعلن المشري عن معارضته أي تعديل للسلطة التنفيذية لا يتلاءم مع الإعلان الدستوري، مؤكدًا ضرورة التقيد بالاتفاق السياسي المبرم في الصخيرات بالمغرب عام 2015 عند إجراء أي تغيير في السلطة التنفيذية.

ويبدو أن مجلس الدولة لن يقف وحيدًا في معركته ضد أتباع حفتر ممن يستولون على مجلس النواب بالقوة، حيث إن استهداف “صالح” يشمل كلًا من مجلس النواب والحكومة، وبالتالي فإن هذا سيقود إلى زيادة التعاون بينهما لمواجهة العبث الذي يقوده “صالح”.

وربما كانت هناك إشارة مهمة في هذا السياق حين اجتمع كبار رجال الدولة في المنطقة الغربية في مؤتمر حمل عنوان “الدستور أولًا”، وذلك قبيل يوم واحد من انعقاد جلسة مجلس النواب في طبرق لبحث ملف تغيير الحكومة واستبعاد مجلس الدولة.

وأبرز الشخصيات التي حظرت هذا المؤتمر، الدبيبة والمشري، وعبد الله اللافي، نائب رئيس المجلس الرئاسي، وفوزي النويري، نائب رئيس مجلس النواب، والصديق الكبير، محافظ البنك المركزي، ومحمد الحافي، رئيس المجلس الأعلى للقضاء رئيس المحكمة العليا، وخالد شكشك، رئيس ديوان المحاسبة، وخالد مازن، وزير الداخلية، وعبد الرؤوف قنبيج، نقيب المحامين.

 

دلالات هذا الاجتماع وأثره على مستقبل ليبيا

وبالنظر إلى طبيعة الشخصيات التي حضرت هذا المؤتمر يتضح أنه كان سياسيًا وأمنيًا وقانونيًا ودستوريًا، الأمر الذي يعطي دلالة واضحة على أن أي قرار سيتخذه عقيلة والنواب الموالين له بشأن تغيير الحكومة لن يجد طريقه للتنفيذ، وسيتم التصدي له بكل السبل القضائية والبرلمانية والمالية والأمنية.

ورغم ذلك، فإن الوضع العام في ليبيا سيعود أشهر وربما سنوات للوراء، حين كان هناك حكومتان، واحدة في الغرب، ومقرها العاصمة طرابلس، وهي المعترف بها دوليًا، وأخرى في الشرق تأتمر بأمر مجرم الحرب حفتر. 

ومن المؤكد أن هذا إن تم فإنه لن يكون قانونيًا بحال، ذلك أن غالبية النواب مع استمرار حكومة الدبيبة، بحسب النائب محمد الرعيض، الذي حذر في تصريح لقناة “فبراير” من أن “الذهاب في تغيير الحكومة سيتسبب إما في انقسام مؤسساتي أو حرب جديدة”. وعلى هذا، فإنه إن جرى تأسيس حكومة موازية في الشرق، فإن ذلك سيكون خارجًا عن المسار الدستوري.

وبطبيعة الحال، فإن ذلك الانقسام سيتم أيضًا في البرلمان، حيث سينعقد كل جانب من النواب على حدته، كما كان الأمر قبل نحو سنة، يوم كانت الحكومة الشرعية ومجلس الدولة وبعض أعضاء البرلمان في مسار، وحفتر ومليشياته وحكومته الموازية وبعض نواب البرلمان في مسار آخر.