أقدمت المغرب على تنفيذ تجربة اجتماعية فريدة وجليلة، بعدما قررت جمع أطفال الشوارع المغاربة وتعليمهم فنون السيرك في واحدة من أهم التجارب لمواجهة هذه المشكلة العالمية…التي طالما حاولت العديد من الدول مواجهتها بإنشاء دُور خاصة للإيواء، أو محاولات فاشلة لعودتهم إلى أسرهم التي لفظتهم سابقا، وربما التي قد هربوا منها لعدم شعورهم بأدنى درجات الدفء الأسري، أو حتى بوعود حكومية مستمرة في تطوير العشوائيات التي غالبا هي السبب في انتشار هذه الظاهرة.
إلا أن جميعها لم يحقق أي نجاح يذكر، ولم تقدم نتائج حقيقية مثمرة، ولكن التجربة التي قدمتها المغرب وضعت بها أولى خطوات الحلول المجدية لهؤلاء الأطفال، بعدما جذبتهم لتعليمهم عملا ممتعا وجذابا بالنسبة لهم، وبذلك تضمن عدم هروبهم مرة أخرى إلى الشوارع، وفي نفس الوقت حمت المجتمع من تلك المشكلة التي طالما أرقته.
واعتمدت تجربة سيرك “شمسي” المغربي على تحفيز رغبة هؤلاء الأطفال لتطوير أنفسهم من خلال تعليمهم لفنون السيرك، ولم تقف تلك التجربة عند حدود تعليم الأطفال تلك الألعاب البهلوانية البسيطة والتقليدية، التي طُبعت في خيال الشعب المغربي، ولكنها قررت الخروج عن حدود المألوف اجتماعيا، لتعليم هؤلاء الطلبة ذوي الطابع الخاص أساسيات فنون السيرك العالمي المعاصر.
فقد انطلقت تلك المدرسة المغربية من نقطة خلق الرغبة لدى هؤلاء الأطفال في تطوير أنفسهم بتعلم مهنة جذابة، وفي نفس الوقت جعلتهم معتمدين على أنفسهم، ولعل هذا السيرك المقام على حدود العاصمة المغربية الرباط، دليل قوي على نجاح هذا النموذج في حل مشكلة أطفال الشوارع.
وربما يساهم الاسم الذي اختير لهذه التجربة “المدرسة الوطنية للسيرك شمسي” في عكس هذه الرغبة بالاحتواء، وإشعار هؤلاء الأطفال بالدفء الاجتماعي الذي طالما افتقدوه في ظل وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، من خلال تعليمهم داخل تلك المدرسة – الأولى من نوعها، ليس في المغرب فقط، ولكن على مستوى القارة الإفريقية كلها – بتدريبهم على فنون السيرك الاحترافي لمدة ثلاث سنوات يحصلون بعدها على دبلوم “فنان السيرك منشط ورشات” أو “فنان السيرك تشخيص”، بهدف مدهم بأمل جديد لمستقبل مختلف وأفضل كثيرا.
وقد أقيمت تلك الخيمة التي بات يعرفها كل المغاربة الذين يمرون خلال يومهم على “كورنيش” مدينة سلا (المجاورة للعاصمة الرباط)، بالقرب من حي “سيدي موسى” الهامشي، بالقرب من مبنى أثري طبعت عليه وزارة الثقافة لافتة تقول إن هذه البناية، تحمل اسما يعود لثلاثة قرون مضت، هي “القصبة الإسماعيلية”، أو “قصبة كَناوة”، ليجمع هذا المكان بين رمزين هامين للثقافة والفن على بقعة أرضية واحدة.
سيرك احترافي
وربما ساعدت هؤلاء الأطفال أجسادهم النحيلة على تلك التدريبات القاسية، وربما لم يكسر هالة الهدوء والسكينة اللذين يحوطان المكان إلا أصوات تدريبات هؤلاء الطلبة وحماستهم فيها، فما بين تدريبات المشي على الحبال، إلى التدريبات للوصول إلى مزيد من مرونة الجسد وخفة خطواته، تحت إشراف أساتذة من المغاربة وكذلك من الأجانب للوصول بهم إلى درجة عالية ومتميزة من الاحترافية داخل تلك الخيمة التي تطل مباشرة على المحيط الأطلسي.
ومن ضمن هؤلاء المشرفين على هذا الصرح الفني زكرياء بن يمينة مدير الدراسات بالمدرسة الوطنية للسيرك “شمسي”،ولاعب سابق بالمنتخب الوطني المغربي للجمباز الذي يظهر على ملامحه ذلك الشعور بالفخر بإدارته لتلك المدرسة التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى العام 2000، عندما قررت “الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية صعبة” تنفيذ فكرة سيرك اجتماعي يجمع المشردين من الأطفال والشباب المغاربة، والعمل على تطويره لينافس فيما بعد على مستوى الاحترافية أقوى سيرك عالمي.
ويحكى “بن يمينة” عن وصول المدرسة لهدفها، الذي تمثل في تخريج طلبة فنانين بمستوى لا يقل عن مستوى اللاعبين العالمين، وهذا ما قد أثبته النجاح الباهر الذي حققه مهرجان “القراصنة”، والذي تقيمه المدرسة مرة كل سنتين بالمدينة، وهو ما يعطي هؤلاء الطلبة الثقة، وكذلك المساحة، لإبراز قدراتهم ومواهبهم أمام الجمهور، وهو ما يساعدهم على إكمال مسيرتهم بشكل اجتماعي أفضل إلى جانب تلقي عروض للعمل بشكل فردي وخاص.
عروض عالمية
وربما باتت تلك الفرص وعروض الاحتراف التي يوفرها سيرك “شمسي”، جانبا إغرائيًّا لكل الشباب الذين يحلمون بالاحترافية في عالم فنون السيرك، وكان أحدهم الفنان محمد النحاس، الذي سيطرت عليه رغبته في اقتحام هذا العالم والاحتراف فيه، حتى ترك دراسته في الدار البيضاء وشد رحاله إلى سلا، حيث تكون المدرسة التي يرغب في الانضمام إليها.
وحتى حين التحق “النحاس” بالعمل مع فرقة إسبانية وبلوغه الـ25 من عمره، لم يغب حلمه عن مخيلته للحظة، وظل الالتحاق بالمدرسة الوطنية لفنون السيرك، تلك المدرسة الوحيدة التي تدرس هذا الفن في القطر بأكمله، هاجسا لا يفارقه، حتى تمكن بالفعل من تحقيق هدفه، وحصل على دبلوم فنون السيرك بعد ثلاث سنوات من الدراسة، ليعمل فيما بعد مع فرقة سيرك باريسية ليقدموا العروض في العديد من الدول الأوروبية والإفريقية.
وتطور الحلم مع مرور الوقت لامتداد المسيرة في هذا المجال بعد انقضاء فترة السماح كلاعب في العقد الخامس وربما السادس، ليصبح مشرفا بنفس المدرسة – حلمه القديم- لتعليم الطلبة والطالبات، حيث جذبه عشق فنون السيرك منذ أن كان طفلا، وبدأ في تدريباته قبل أن يتم الـ 15 من عمره.
ويرى “النحاس” أن مستقبل فنون السيرك في المغرب ينتظر الأفضل، خاصة وأن الجمهور المغربي قد استهواه هذا الفن بعروضه، بل وأصبح الجمهور المغربي يقبل على العروض المتميزة سواء كان في الألعاب التي يقدمها أو حتى على مستوى التناسق بين اللعبة وبين الموسيقى والإضاءة، كما أنه يقدر اللاعبين المتميزين، وربما يبحث عن اللاعب المحترف لإلقاء كلمات الشكر والمدح على مسامعه، كما قد يحدث العكس أيضا”.
ويستعد “النحاس” مع زملائه الآن لتقديم عرض جديد، ضمن تلك العروض التي يقدمها للشارع تحت اسم “بداية”.
عارضة السيرك مرفوضة
ولكن الأمر يختلف كثيرا مع الفتيات؛ فالمجتمع المغربي لا ينظر نفس نظرة التقدير للاعب السيرك كما هي للاعبة، فقد تعترض الأسر على مشاركة فتياتهن في فنون السيرك، حتى وإن كن مؤهلات لذلك، أو لديهن الرغبة والطموح في التعليم وتقديم تلك العروض، ومن ثم فالمجتمع بأسره لا يحبذ اشتراك الفتيات في هذه الألعاب، وهو ما جعل عدد الفتيات في تلك المدرسة لا يتجاوز الخمس طالبات، في حين أن عدد الذكور وصل إلى 54 طالبًا.
وكانت إحدى هؤلاء الفتيات التي لم تعِر هذه النظرة المجتمعية اهتماما، وقررت التقدم للدراسة بتلك المدرسة، رغم معارضة أسرتها، قد وصفت مشاركتها في أول عرض لها أمام الجمهور بأنها كانت تجربة تستحق المجازفة، خاصة وأنها كانت تحب الرقص منذ طفولتها مثلما قالت، ولكنها اتجهت إلى عالم السيرك، الذي وجدت أنه يشبع رغباتها، ولكن ما كان يؤرقها رغم تحقيق حلمها، هو عدم حضور أسرتها لعرضها الأول، حيث إنها قررت عدم إخبارهم بموعد العرض، لعلمها مسبقا بموقفهم الرافض واستنكارهم لفعلها، وهو ما أشعرها بالكثير من خيبة الأمل والحزن، ورغم خوفها من إخبارهم موعد العرض الذي شاركت فيه، فإنها قررت المضي قدما فيما بدأته، سواء قد باركت أسرتها تلك الخطوة أم لا، وإن كانت تتمنى أن يتغير موقفهم مستقبلا، وقالت إنها لا تهتم بتلك النظرة الاجتماعية للاعبة السيرك، وأنها تكتفي بدعم المشرفين والطلبة، وكذلك الطالبات من زملائها، وهو ما يشجعها على إكمال مشوارها الفني لنهايته.
أعمال مسرحية
ولم تتوقف العروض التي يتلقاها طلبة المدرسة على المشاركة في أعمال السيرك بدول أخرى ولكنها امتدت كذلك إلى الأعمال الفنية المسرحية الاستعراضية، فقد استعانت المخرجة والممثلة السينمائية المغربية فاطيم العياشي، بطلبة المدرسة لإعداد عرض مسرحي تعبيري بعنوان “مسيرة”، وهو يمزج بين فنون السيرك والموسيقى وكذلك الغناء، وهي خطوة ستدفع العديد من الفنانين الذين يسعون لرعاية هؤلاء الطلبة للاستعانة بهم في أعمال فنية، سواء كانت مسرحية أو حتى استعراضية.
وصرحت الفنانة المغربية بأنها قد استعانت بطلبة تلك المدرسة؛ لأنها اكتشفت مواهبهم الكبيرة أثناء العرض، فضلا عن تمتعهم بمرونة جسدية لا يتمتع بها الممثلون، وأضافت أن فنون السيرك تعطي الساحة الواسعة لإظهار المواهب والإبداع، والتي تعتقد أنها قادرة مع مرور الوقت لتغير نظرة المجتمع التقليدية له.
اضف تعليقا