العدسة – معتز أشرف:

“هل في وسع المجتمع الدولي بثّ حياة جديدة في مسار مفاوضات جنيف حول سوريا؟”، سؤال صعب، في وقت صعب، بلغت فيه تعقيدات المشهد السوري منحنى جديدًا بعد الضربة الثلاثية، لكن في مطالعة دورية جديدة لخبراء مركز “كارينجي” حول القضايا التي تتعلق بسياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومسائل الأمن أكد الخبراء أن الأمر صعب، ولكنه ليس محالًا، إذا توافرت شروط عدة، مشددين على أن السلام يمكن أن يمرّ عبر إطار الأستانة، لكنه يجب أن ينتهي في جنيف.

أمر صعب!

مهى يحيى، مديرة مركز “كارنيجي” للشرق الأوسط، ترى في المطالعة الدورية التي وصلت (العدسة)، أنه من الصعوبة بمكان، أن يبث المجتمع الدولي حياة جديدة في مسار مفاوضات جنيف حول سوريا، فهو يتطلّب التوصّل إلى موقف أوروبي موحّد لتشجيع الولايات المتحدة على إطلاق مبادرة سياسية يُعتدّ بها بشأن سوريا، وإقناع الروس بأن مسار جنيف هو الوحيد القادر على تحقيق سلام قابل للحياة في سوريا وعلى حفظ مصالحهم، كما ينبغي على الروس، في المقابل، الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في مسار قد يجبره على تقديم تنازلات مؤلمة، ويخضعه إلى بعض المساءلة والمحاسبة للفظائع المُرتكبة في سوريا على مدى السنوات السبع الماضية، أما إيران فستلعب دورًا معطّلًا إلى حدٍّ كبير، إلا إذا أدركت أنها ستتكبّد المزيد من الخسائر ببقائها خارج اللعبة، وينطبق الأمر نفسه على تركيا وإسرائيل، في وقتٍ تنخرط الدولتان باطّراد في لعبة ذات حصيلة صفرية في سوريا، وفيما تلوح في الأفق نُذُر باندلاع صراع إقليمي، ولاسيما بين إسرائيل وإيران، لكن في ظل هذه الصراعات بين الدول الكبرى في سوريا، باتت المخاطر كبيرة وتكلفة عدم التدخّل أكبر.
وأشارت مهى يحيى إلى أنه في حين يرسّخ “الأسد” سيطرته على الأجزاء الرئيسية من البلاد، ينحسر النزاع الأساسي، وتكتسب نزاعات ثانوية بين مختلف القوى الدولية أهمية، خاصةً على طول الحدود السوريةـ ومن شأن ذلك أن يخلّف تداعيات كبيرة على المنطقة وخارجها، وفي هذا السياق، تبقى جنيف المكان الوحيد المتاح اليوم للتصدّي لهذه التحديات.

قرار مؤجل

من جانبه، قال سام هيلر، محلّل أول في مجموعة الأزمات الدولية، الذي يركّز أعماله على التنظيمات الجهادية: “يصعب تصوّر كيف يمكن إعادة إحياء مسار جنيف للسلام في سوريا، أقلّه في هذه المرحلة، فجُلّ ما يمكن أن تفعله الدول المعنية هو تكرار مواقفها، أي أنها ستواصل دعم إطار جنيف والمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، والتشديد على أن المجتمع الدولي لن يوفّر الدعم المالي لإعادة إعمار سوريا إلا بعد تحقيق اختراق سياسي، وهذا ما توقّعناه من مؤتمر المانحين، الذي انعقد هذا الأسبوع في بروكسل، إضافةً إلى بعض الإيضاحات بشأن التزامات المانحين حيال الخطة الإنسانية للأزمة السورية، لكن إعادة الإعراب عن هذه المواقف لن تدفع المسار السياسي السوري قدمًا، بل ستؤدّي إلى استمرار المواجهة بين الحكومة السورية وبين داعمي المعارضة، هذا الجمود يناسب الرئيس بشار الأسد، الذي لا يزال تعنّته العائق الأساسي في وجه أي مسار سياسي يحظى برعاية دولية، ففي ظل غياب الحل السياسي، تستطيع قواته أن تتابع تقدّمها في ساحة المعركة، وتبدو حكومة “الأسد” على قاب قوسين من بلوغ الحدّ الجغرافي الأقصى من الأراضي التي تستطيع استعادتها من خلال القوة العسكرية الغاشمة، لذا سيكون عليها على الأرجح عقد مساومات سياسية جديدة، في الأستانة أو غيرها، لتتمكّن من المضيّ قدمًا. لكنها لم تبلغ بعد هذه الحدود القصوى.

الأستانة وجنيف معًا!

أما ناتالي توكي، مديرة معهد” “stituto Affari Internazionali في روما، ومستشارة خاصة للممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني، فتؤكد أن المجتمع الدولي لا ينفكّ يكرّر أنه ما من حلّ عسكري للنزاع السوري، والحقيقة هي أن التوصّل إلى إبرام اتفاق سياسي داخل سوريا نفسها وبين القوى الإقليمية والعالمية، هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يضع حدّاً لهذه الحرب الكارثية، و لقد قيل لنا إن الطريق إلى السلام يمكن أن يمرّ عبر إطار الأستانة، لكنه يجب أن ينتهي في جنيف.
وأضافت أنه من البديهي للغاية القول إن النزاع السوري – مثله مثل أي نزاع – لا يمكن أن ينتهي إلا بحل سياسي، بيد أن هذا الحل يتطلّب وضع حدّ للمرحلة العسكرية من النزاع، بيد أن مجرّد التركيز على فضائل الحل السياسي لا يساهم كثيرًا في حثّ الأطراف العسكرية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، خاصةً منها أولئك الذين يدركون أنهم “يربحون” في المواجهة العسكرية، موضحة أن الضربات العسكرية التي شنّتها مؤخرًا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا في سوريا، أدت عن غير قصد، إلى إرجاء الحل السياسي، ولا يُعزى السبب إلى أن الردّ العسكري المستهدف على هجوم كيميائي كان خطأ (على الرغم من أن إجراء تحقيق كامل قبل ذلك كان ليبدو مبرَّرًا)، بل لأن نظام “الأسد”، الذي يؤمن بحل عسكري، يعرف الآن أنه يستطيع استكمال إستراتيجيته العسكرية من دون قيود، وبدعم من حلفائه، وفي هذه المرحلة، ليس باستطاعة أحد عكس هذا المنحى.

وترى ناتالي توكي، أنه قد تنتهي المرحلة العسكرية الأكثر حدّة في الحرب السورية، لكن مفاوضات الأستانة ستتعثر، فيما تبقى إمكانية إحراز تقدّم يُعتدّ به في جنيف بعيدة المنال، ما لم تعترف الأطراف كافة بمؤشرات الفشل والكوارث.

الحلول تتباعد!

أما عمّار قحف، الشريك المؤسّس والمدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الإستراتيجية، الذي يُعنى بالأبحاث السياسية، مع تركيز خاص على سوريا، فيرى أن العمليات العسكرية المتواصلة التي ينفّذها كلٌّ من روسيا والجيش السوري والميليشيات التابعة له أدت إلى فشل كل صولات وجولات محادثات جنيف بشأن سوريا، ولا نهاية تلوح في الأفق، ونتيجةً لذلك، لا تزال سوريا ساحة لصراعٍ بالوكالة بين مختلف القوى الإقليمية والدولية، وهي شهدت أحيانًا اندلاع اشتباكات مباشرة أكثر بين دول خارجية، ناهيك عن أنها تضم قواعد عسكرية لأربع دول على الأقل والعديد من الميليشيات غير الدُولية.

وأوضح أنه، في هذه المرحلة، بات على المرء أن يميّز بين مسار جنيف وبين مسار سياسي دولي يشمل اللاعبين الدوليين والإقليميين الأساسيين المنخرطين في الصراع السوري، فهذان المساران لم يعودا مترادفين بالضرورة، و يبدو أن الضربات العسكرية التي شنّتها مؤخرًا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا في سوريا، كانت عبارة عن محاولة لحمل الطرف الآخر (أي روسيا) على العودة إلى شكل من أشكال العملية السياسية، خاصةً بعد أن اعتقد الروس أنهم سيطروا على جوانب النزاع السوري كافة، وبالتالي، هناك مؤشر على وجود رغبة في بلورة عملية سياسية ما بعد مفاوضات جنيف.