أكملت مسيرات العودة عامها الأول، ونجحت في أن تضع القضية الفلسطينية على خارطة العالم، رغم كل المتغيرات العربية والإقليمية والدولية الحاصلة، وأعادت فلسطين إلى قلب الحدث، وقدمت صورة نضالية فلسطينية وطنية جميلة، رغم حالة الانقسام. أي أنها تجاوزت الانقسام وتجاوزت عملية التآكل التي أحيكت للقضية الفلسطينية، وأعادت الوعي الشعبي الجماهيري للحضور، وأثبتت أن حصار الشعب والتضييق عليه وارتفاع تكلفة انحيازه للمقاومة، لا يعني الانسحاب أو ضيق مساحات الحاضنة الشعبية، وأن حرباً واثنتين وثلاثاً لا تعني الاستسلام والقبول بالأمر الواقع. لقد جددت مسيرات العودة الروح النضالية الفلسطينية، بعدما أصبح السلام بنتائجه الصفرية هو الخيار الاستراتيجي الوحيد.
أفضت مسيرات العودة إلى حالة من الوعي، وبرهنت على أن الشعب الفلسطيني قادر على النهوض واستنهاض الهمم والمقدرات وتجاوز كل أشكال الخلافات، وأن مقاومة الاحتلال هي موضع إجماع بين الكل الفلسطيني، وأن نهج أوسلو بعد ربع قرن لم يعد قادراً على الاستمرار في عملية الترويض، وربطت عندما انطلقت بين كل المكونات الفلسطينية واستحضرتها أينما كانت، وغلّبت الهوية الوطنية الفلسطينية على كل الحسابات الفصائلية الضيقة، عندما تبنت رفع العلم الفلسطيني فقط، وقد كان يؤخذ على بعض الحالات الفلسطينية كتأبين الشهداء أو مباركة عملية فدائية، تغييبها للعلم الفلسطيني على حساب رفع أعلام الفصائل. تجاوزت مسيرات العودة هذا المأخذ.
وقدمت الوحدة والهوية الوطنية على كافة مكونات القضية الفلسطينية، وربطت الأرض بالإنسان، عندما اختارت يوم الأرض 30 مارس/آذار موعدا لانطلاقتها. وبالتالي، ربطت ما بين حق العودة والأرض، لتعيد إلى الصرع جوهره، ولتؤكد أن قضية اللاجئين وعودتهم لا تنفصل عن الأرض وعن القدس، وأن هذه الثوابت حاضرة ولا تقبل التسويف والتدليس والتيه في أروقة ما يسمى بالتسوية السلمية، وأن هذه الحقوق غير قابلة للتفاوض أو المساومة أو التأجيل، ولا يمكن أن تكون طيّ النسيان، وأنها قضية وحق تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل. لقد فاجأت مسيرات العودة كل المراقبين والمراهنين، وفرضت واقعا مختلفا لم يكن محط استشراف، خاصة بعدما غيرت المعادلات وفرضت وقائع جديدة على الأرض وبددت وهم الردع الإسرائيلي.
أحدثت مسيرات العودة جدلا واسعا في الأوساط الإسرائيلية وتحولت إلى مأزق سياسي وأمني، وأفقدت إسرائيل رواية الضحية “الهولوكست”، عندما ردت على المسيرات السلمية بالقصف وإطلاق الرصاص الحي والاستخدام المفرط للقوة، وتسابق قناصتها في استهداف المدنيين العزّل من الأطفال والنساء والمسعفين والصحافيين. حتى باتت مسيرات العودة وأهدافها وتقييمها حاضرة في الرواية الإسرائيلية، ولم يعد ممكنا تجاهلها. وتحولت حدود قطاع غزة التي كانت هادئة نسبيا منذ انتهاء حرب عام 2014 إلى مصدر احتكاك وإرباك واستنزاف للجيش الإسرائيلي الذي فوجئ بهذا الحشد الشعبي غير المركزي والممتد على طوال حدود غزة، في أكثر من منطقة، ووصل عدده إلى ما يقرب من 250 ألف متظاهر سلمي.
وقال الخبير الإسرائيلي في شؤون الإعلام والأمن، يوني بن مناحيم، في مقابلة مطولة له على القناة العاشرة الإسرائيلية بعد شهر فقط من بدء مسيرات العودة، إن هناك سبعة أهداف يسعى الفلسطينيون إلى تحقيقها من خلال مسيرات العودة على الحدود في قطاع غزة. ويلخص بن مناحيم الأهداف السبعة لمسيرات العودة كالتالي:
أولاً: أعادت القضية الفلسطينية وحق العودة إلى أجندة السياسة الإقليمية والدولية.
ثانياً: تسببت في إحراج إسرائيل في الساحة الدولية، لأن الفلسطينيين نجحوا في تصوير جيشها يطلق النار ليقتل ويصيب 1400 فلسطيني في يوم واحد، وبشكل فعلي قتلت قوات الاحتلال في أسبوع واحد 22 مواطنا وجرحت نحو 1500، في جرائم وصفت بأنها استخدام مفرط للقوة.
ثالثاً: أعادت طرح موضوع حصار غزة والأزمة الإنسانية فيها من جديد على صدارة الاهتمام العالمي، بعد صمت مستمر لعقد من الزمان.
رابعاً: وضعت المزيد من العقبات أمام صفقة القرن للرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تستهدف حق العودة.
خامساً: حولت حدود قطاع غزة الشرقية والجنوبية والشمالية إلى مراكز احتكاك جديدة بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي.
سادساً: أعادت الطابع الشعبي للصراع الذي يخوضه الفلسطينيون.
سابعاً: نجح الفلسطينيون في قطاع غزة في إيصال رسالتهم إلى مجلس الأمن والجامعة العربية، ونقلوا القضية الفلسطينية من الواقع الإقليمي إلى الواقع الدولي.
إن حجم ما حققته مسيرات العودة من أهداف، سواء في الرؤية الإسرائيلية أو في القراءة الفلسطينية، لا يعني الارتكان، فالمسيرات في وصفها الموضوعي هي فعل إنساني قد يخطئ وقد يصيب وقد يمسه التعب أو التراجع أو حتى الإخفاق، خاصة أن مسيرات العودة قد باتت موضع تربص وترويض والتفاف واستهداف، ويراد لها الانحراف والانصراف إلى أهداف ثانوية يومية حياتية.
وإن ذكرنا لما حققته من أهداف وتراكمات وإنجازات فيما سبق، لا يعني تغييبنا لضرورة المراجعة والتقييم، أين أخطأت وأين أصابت؛ لا للتقليل منها، ولكن لإجراء قراءة موضوعية تضمن وتكفل استمرارها لأعوام قادمة، خاصة أن الجدل بدأ يتسلل إلى الجدوى من مسيرات العودة، وبدأ حضورها يتضاءل وتكلفتها البشرية ترتفع، ما قد يفضي إلى تحوّلها من رافعة نضالية إلى عبء، ومن رفع تكلفة الاحتلال إلى رفع تكلفة الاستمرارية. ففي بعض أيام الجمعة، تراجع الحضور واقتصر الخطاب فيها والكلمات على الهيئة العليا للمسيرات وقادة الفصائل فقط.
إن المراجعة والتقييم لا تعني التراجع عن مسيرات العودة بقدر ما تستهدف وضع اليد على مكامن القصور وتصويبها، فمسيرات العودة شكل من أشكال المقاومة، والتي تعني المفاعلة المستمرة. ولكي تستمر مسيرات العودة يجب مراجعة الأخطاء وتصويب الأداء، وحسن التوظيف، واسترداد الحضور، والمراجعة الموضوعية الشجاعة.
ونستحضر ونختصر ما يمكن وصفه بالتوصيات كمدخل للتقييم والمراجعة:
أولا: يجب ألا تبدو مسيرات العودة كهبّة شعبية موسمية، أو كردة فعل كهبّة مقاومة جدار الفصل العنصري وهبّة البوابات الإلكترونية وهبّة مواجهة تهجير أهالي الخان الأحمر وغيرها.
ثانيا: يجب ألا تبدو كنضال فرعي مقتصر على ومنحصر في قطاع غزة فقط. يجب العمل على إشراك واشتراك الضفة الغربية وفق بيئتها ومشاركة فلسطينيي الداخل وفلسطينيي الخارج. إذ يشكل اقتصارها على قطاع غزة دون باقي أماكن التواجد الفلسطيني أحد أهم التحديات، وقد يؤدي انحصارها في غزة إلى ربطها بأهداف ومطالب فرعية وتحوّلها عن مسارها الأساسي، إذ باتت فعالياتها أحيانا مرتبطة باستجابة الاحتلال لشروط التهدئة ورفع الحصار، ما يعني إمكانية الالتفاف عليها، خاصة إذا تغلبت المطالب الفرعية كرفع الحصار والأزمة الإنسانية على الهدف الرئيسي وهو حق العودة.
ثالثا: تشكيل هيئة جديدة من الشباب في كل أماكن التواجد الفلسطيني، وعدم اقتصار وجود قيادتها على قطاع غزة، وابتعاد الفصائل وقادتها عن تقديم أي خطاب يتعلق بمسيرات العودة وفعالياتها، وهو ما قد يفضي إلى تخفيف ضغط الوسطاء الحاصل على الفصائل من أجل إنهاء أو تجميد بعض أدوات مسيرات العودة. يجب أن تبدو مسيرات العودة كفعل شعبي شبابي مستقل عن الفصائل. ويمكن للفصائل أن تدعمها وتساندها، لكن ألا تكون في العمق منها وتبدو كما أنها هي الرأس المفكر والمدبر لمسيرات العودة. وقد وقعت الفصائل في شرك توصيف الفعاليات بمسميات عسكرية، فتجد وحدة قص السلك ووحدة الكاوشوك ووحدة الطائرات الورقية ووحدة الإرباك الليلي. وعلى الرغم من أن الفعل هنا هو فعل شبابي شعبي نضالي، إلا أن تسميته بالوحدات يصور الأمر وكأنها وحدات عسكرية، على غرار وحدات الجيوش النظامية، كوحدة المظليين مثلا. هذه تسميات يجب تغييبها، حتى لا تصور الرواية الإسرائيلية أنها أمام فعل عسكري.
رابعا: الابتعاد وتجنّب ربط مسيرات العودة بالأوضاع الإنسانية والاقتصادية في قطاع غزة. مسيرات العودة حالة نضالية تراكمية تهدف إلى انتزاع الحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها حق العودة. ولا تهدف إلى تحسين ظروف الحياة تحت الاحتلال، ببناء ممر بحري أو مطار في سيناء أو زيادة ساعات وصل الكهرباء. والأهم تجنّب الربط بين فعاليات مسيرات العودة والابتزاز، أي تمرير أنه إذا لم تستجب إسرائيل فإننا سنُفعّل الأدوات الخشنة.. هذا خطاب يقلل مسيرات العودة. وبالتالي، يجب الإبقاء على العنوان العام والعريض، وهو حق العودة الذي يجمع الفلسطينيين أينما وُجدوا، خاصة في ظل المخططات الرامية إلى تصفية القضية – صفقة القرن- وفي القلب منها حق العودة.
خامسا: إعادة مسيرات العودة إلى الساحة الدولية، وتوظيف كل القدرات والإمكانيات المتاحة، لتصبح مسيرات العودة حاضرة على المستوى الدولي، سياسيا وإعلاميا واجتماعيا، وإيصال الصورة الحقيقية ومواجهة الرواية الإسرائيلية. وعدم الاقتصار على التغطية الإعلامية العربية والمحلية فقط. إن المراجعة وإعادة التقييم يجب أن تكون دورية لا موسمية، لضمان استمرارية مسيرات العودة وتحقيق أهدافها.
المصدر: العربي الجديد
اضف تعليقا