العدسة _ منصور عطية

هل استسلمت مصر للوضع الحالي، واعترفت أن سد النهضة الإثيوبي أمر واقع يستحيل تغييره، أم أن في جعبتها المزيد من الخطوات التصعيدية التي تناور حاليًا للجوء إليها قريبًا؟.

التساؤل وعكسه، فرضتهما مواقف وتصريحات المسؤولين المصريين خلال الأيام الماضية، والتي بدت متضاربة إلى حد كبير، مع دخول مفاوضات المسار الفني نفقًا مظلمًا، وانتهاء أديس أبابا من بناء نحو ثلثي السد.

تداعيات الأمر الواقع

مجلس النواب كان معقل الاعتراف المصري الضمني باستسلامها لسد النهضة كأمر واقع، ليس هذا فحسب، بل اتخاذ الخطوات الاستباقية لمواجهة التداعيات المحتملة لهذا الواقع.

المجلس وافق، الأحد، على تعديل قانوني يتيح للحكومة حظر زراعة محاصيل معينة في مناطق تحددها، وفي حين تقول الحكومة إنها ترشد استهلاك المياه، قال نواب إن المحاصيل التي ستحظر ستكون من النوع الأكثر استهلاكا للمياه.

التعديل أتاح للحكومة زراعة المحاصيل المحظورة في المناطق المحددة، خاصة ما يتصل منها بتجارب الإكثار، وذلك بالتنسيق بين وزارتي الزراعة واستصلاح الأراضي والموارد المائية والري.

وقال رئيس المجلس “علي عبدالعال”، خلال جلسة الموافقة على التعديل القانوني: “الجميع يعلم أن مصر تعاني الآن من فقر مائي، والذي من شأنه ضرورة أن يتم الترشيد في زراعة المحاصيل التي تحتاج للمزيد من المياه”.

وكان د. محمد علي فهيم، المدير التنفيذي لمركز المعلومات وتغير المناخ والطاقة المتجددة بوزارة الزراعة، قد سبق أن صرح بأن وزارتي الزراعة والري لم تشركا المركز في ملف تحديد مساحات الأرز، وهو من الزراعات كثيفة المياه.

وقال إن وزارة الري أخطأت بتقليص زراعة الأرز في محافظات كفر الشيخ ودمياط والدقهلية، فتلك الأراضي الساحلية ستتعرض للتملح طالما لم يتم زراعتها بالأرز.

ويثير بناء سد النهضة مخاوف مصر من انخفاض حصتها التاريخية من مياه النيل، والمقدرة بنحو 55.5 مليار متر مكعب سنويًّا، وذلك خلال ملء خزان السد في السنوات القليلة المقبلة.

وعلى الرغم من منطقية الطرح الحكومي بمسألة ترشيد استلاك المياه، إلا أن الغرض الحقيقي المرجح وراء مثل هذا التعديل، هو مواجهة آثار سد النهضة في المستقبل القريب، بحيث تنخفض حصة مصر من مياه النيل، الأمر الذي يفرض عليها سد ثغرات استهلاكه، ومن بينها تحجيم زراعة المحاصيل كثيفة المياه.

ولعل تصريحين مهمين للرئيس عبدالفتاح السيسي، يكشفان حقيقة الاستسلام المصري، ففي كلمة للصحفيين أعقبت القمة التي عقدت على هامش أعمال القمة الثلاثين للاتحاد الإفريقي، أواخر يناير الماضي: “كونوا مطمئنين تمامًا في قادة مسؤولين.. التقينا واتفقنا على إن مفيش ضرر على حد”، وأضاف، ردًّا على سؤال أحد الصحفيين عما إذا كانت أزمة سد النهضة قد انتهت: “لم تكن هناك أزمة من الأساس”.

في الشهر نفسه أكد السيسي في كلمته لدى افتتاحه عددًا من المشروعات التنموية في المنوفية، أن مصر “لن تحارب أشقاءها أبدًا”، وأتبع تلك العبارة بقوله: “أقول للأشقاء في السودان وإثيوبيا، إن مصر لا تتآمر، ولا تتدخل في شؤون أحد، ونحن حريصون على علاقتنا الطيبة، ويكفي ما شهدته المنطقة خلال الأعوام الماضية”.

لن يُفرض علينا شيء

في المقابل، كشرت مصر عن أنيابها بتصريحات هجومية تحذيرية، ربما تكون غير مسبوقة، تضمنت تهديدًا شديد اللهجة بحق إثيوبيا، باللجوء لخيارات أخرى بديلة بعد فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات حول الملفات العالقة.

وزير الخارجية سامح شكري، أكد في تصريحات متلفزة أن مصر تمتلك وسائل عديدة، لم يسمها، لمراعاة والدفاع عن مصالح الشعب المصري في مياه النيل.

“شكري” قال: “وعلى الجميع أن يعلم أن مصر لن يُفرض عليها وضع قائم أو وضع مادي يتم من خلال فرض إرادة طرف على طرف آخر، فهذا غير مقبول، ومصر ستستمر فى الدفاع عن حقوق الشعب المصرى فى مياه النيل ومستقبله بوسائل عديدة لديها”.

وحول اتهامات أديس أبابا للوفد المصري بعرقلة المفاوضات الثلاثية الأخيرة التي عقدت في الخرطوم، أوائل أبريل الجاري، أوضح “شكري”: “ترديد أية مقولة تتهم مصر بعرقلة مباحثات سد النهضة بين الأطراف الثلاثة، غير صحيحة، فمصر بذلت كل جهد خلال جولة الخرطوم، وتفاوضت بحسن نية وتقدير لمصالح الشركاء من خلال طرح مبادرات تلبي مصالح الجميع”.

وتابع وزير الخارجية: “مزيد من فقد الوقت يجعل الوقت يداهمنا، ويجعل التوصل إلى حل للتعثر فى المجال الفنى صعبًا، فباقي من الزمن 15 يومًا فقط، وهناك أمور كثيرة تحتاج إلى تداول من قبل شركائنا”.

وأعرب عن اعتماد مصر على التقرير الاستشاري الاستهلالي، الذي يتضمن “دراسة موضوعية محايدة تبرهن على أنها لن تتحمل أضرارًا لن تستطيع استيعابها من قبل ملء خزان السد وتشغيله”.

شكاوى مقدمة إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمنظمات الدولية المعنية، والدعوة إلى التحكيم الدولي، سيناريوهات “سلمية” لما يمكن أن يكون في جعبة القاهرة من وسائل ألمح إليها وزير الخارجية.

ولعل الجدل الدائر عن احتمالية توجيه ضربة عسكرية تقضي على سد النهضة يتجدد في الوضع الحالي، بعد عدة أشهر على صدور تقرير بريطاني، كشف النقاب عن حالة استنفار في صفوف القوات المسلحة الإثيوبية والسودانية، بعد تداول تقارير عن نوايا مصرية لضرب السد.

موقع “ميدل إيست مونيتور” نقل حينها عن مصادر استخبارتية وأمنية سودانية، قولها: إن “هناك حالة استنفار من قبل القوات العسكرية في السودان وإثيوبيا على حدود البلدين، لوصول أنباء لها باستعداد مصر للقيام بهجوم محتمل على سد النهضة في إثيوبيا”.

وقبلها أفادت تقارير إعلامية، بأن مصر تُجري اتفاقًا سريًّا مع إريتريا لتأسيس قاعدة بحرية على جزيرة “نورا” في البحر الأحمر، الأمر الذي أثار مخاوف إثيوبيا من شن القاهرة لضربة عسكرية تدمر سد النهضة.

مجرد مناورة

بعيدًا عن السيناريوهات المباشرة، من غير المستبعد أن تكون تلك الحيرة المصرية بين الاستسلام والتصعيد مجرد تكتيك تمارسه مصر، ربما لمفاجئة الخصم برد فعل غير متوقع، وخطوة كانت آخر ما يحسبه.

المناورة المحتملة، تقتضي الوصول إلى حل لم تتفتق عنه أذهان المتابعين والمحللين، أو على الأقل استبعدوه، فهل ينتظر أن تعلن مصر اتفاقها مع إثيوبيا على وسيط دولي ذي ثقة متبادلة ينهي الأزمة بطريقةٍ ما، تحفظ لكل دولة حقها، أم يفاجئ الجميع بضربة عسكرية نوعية في العمق الإثيوبي، حتى لو بيد آخرين من المعارضة المسلحة هناك؟.

هذا الأمر يفرض أن القيادة السياسية والعسكرية المصرية على قدر عال من الكفاءة والقدرة على إدارة الملف الشائك بهذه الحرفية.

لكن ربما لو كان التعامل المصري هكذا مع بداية الأزمة، وتحديدًا خلال السنوات الخمس الماضية، لم يكن الحال كما هو عليه اليوم.