منصور عطية

بعد شهرين من الغياب تقرر عودة السفير السوداني إلى العاصمة المصرية القاهرة، كدليل قوي على عزم البلدين على تجاوز خلافاتهما التي تفاقمت في الآونة الأخيرة، وتجلت في خطوة سحب الخرطوم سفيرها أوائل يناير الماضي.

عودة السفير تعد إحدى ثمار الاجتماع الرباعي الذي ضم وزيري خارجية ومديري جهازي المخابرات في البلدين بالقاهرة فبراير الماضي، ولكن رغم ما تبشر به العودة تبقى الخلافات قائمة، على نحو يشير إلى ما يمكن تسميته بتنازلات اتفق الطرفان على تقديمها.

3 قضايا عالقة

وزارة الخارجية السودانية، قالت إن سفيرها لدى مصر “عبدالمحمود عبدالحليم” سيعود إلى القاهرة الاثنين، بموجب توجيه من رئيس الجمهورية “عمر البشير”، بعد شهرين من استدعائه للتشاور.

المتحدث باسم الخارجية “قريب الله خضر” لم يخف الحديث عن جذور الأزمات بين البلدين، والتأكيد على أنها لا تزال عالقة دون حل، وقال في تصريحات صحفية: “عودة السفير لا تعني أن القضايا التي من أجلها تم استدعاؤه حلت، ولكن وضعت خريطة طريق لإيجاد حلول لها في الاجتماع الرباعي”.

وتابع: “الاجتماع وضع أفكارا للمعالجة، لكن الأمر يعتمد على التنفيذ”، مشيرا إلى أن الخلافات تدور حول “ثلاث قضايا هي حلايب، وسد النهضة الإثيوبي، والإعلام”.

وعلى الرغم من أن كلا البلدين لم يعلنان الأسباب الحقيقية وراء استدعاء السفير، إلا أن تلك الخطوة جاءت بعد يوم واحد من نفي المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية صحة ما تردد من أنباء نقلتها صحف سودانية عن أن مصر طلبت استبعاد السودان من المفاوضات الخاصة حول سد النهضة الإثيوبي.

وكانت مصر أعلنت رسميًّا في نوفمبر الماضي، فشل مسار المفوضات الفنية بشأن سد النهضة، نتيجة رفض كل من السودان وإثيوبيا للتقرير الاستهلالي من المكتب الاستشاري الفرنسي، الذي يقيم التأثيرات المحتملة على مصر نتيجة إنشاء السد، والتي تقول القاهرة إنه سيحرمها من حصتها التاريخية في مياه النيل.

وإلى جانب الخلاف حول السد، يقوم خلاف عميق بين البلدين حول السيادة على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي الواقع على البحر الأحمر، والذي تسيطر عليه مصر منذ العام 1995، فيما تؤكد الحكومة السودانية أنه تابع لسيادتها منذ استقلالها في عام 1956.

وفي الملف الإعلامي تشهد البلدان تراشقات يقودها الإعلام الحكومي تارة، والخاص تارة أخرى، بما يشكل إساءات بالغة لقادة وشعبي البلدين.

وبينما اتهم “البشير” القاهرة صراحة بدعم معارضين سودانيين بالسلاح، تتهم وسائل إعلام مصرية الخرطوم مرارا بإيواء عناصر من جماعة الإخوان المسلمين، التي تعتبرها القاهرة إرهابية منذ إطاحة الجيش بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013.

اللافت، أن جميع تلك الأزمات ليست وليدة اللحظة، بل قديمة ومتجذرة، إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت في قرار السودان تخصيص جزيرة سواكن في البحر الأحمر لتركيا، من أجل تطويرها وإدارتها لمدة غير محددة، وهو ما اعتبرته القاهرة موجها ضدها؛ بسبب التوتر مع أنقرة وقرب الجزيرة من مناطق نفوذ مصر على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.

ضمانات السيسي

ولعل حديث مسؤول الخارجية، والذي لم تستطع دبلوماسيته أن تغطي على حقيقة الموقف، إذ اعترف باستمرار الخلافات التي كانت سببا في سحب السفير، بل وأشار إليها حصرا، هذا الحديث يقود إلى ما يمكن أن نسميه تنازلات قدمها الطرفان، أو أبديا استعدادا لتقديمها، خلال الاجتماع الرباعي سالف البيان.

الدبلوماسية الحذرة، والعبارات البروتوكولية، كانت السمة المميزة للبيان الذي صدر عن الاجتماع، وتحدث بألفاظ شديدة العمومية، مثل “تأكيد ثوابت العلاقات الإستراتيجية الشاملة بين البلدين، بما في ذلك العمل على تحقيق وتعزيز المصالح المشتركة، ومراعاة شواغل كل منهما، واحترام الشؤون الداخلية، والعمل المشترك للحفاظ على الأمن القومي للبلدين”.

لكن العودة المفاجئة للسفير، تشير ربما إلى اتفاق آخر غير معلن تضمنه هذا الاجتماع، على نحو طمأن البلدين إلى أنهما يسيران على الطريق الصحيح لإزالة مواطن الخلاف، وحل القضايا العالقة بينهما.

وثمة دلالات ربما تقود إلى هذه النتيجة، أبرزها تصريحان على لسان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، أكد في أحدهما أواخر يناير الماضي، أنه لا توجد أزمات بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، فيما يخص ملف سد النهضة.

وفي وقت سابق من الشهر نفسه، أكد في كلمته لدى افتتاحه عددًا من المشروعات التنموية بمدينة السادات في المنوفية، أن مصر “لن تحارب أشقاءها أبدًا”، وأتبع تلك العبارة بقوله: “أقول للأشقاء في السودان وإثيوبيا، إن مصر لا تتآمر ولا تتدخل في شؤون أحد، ونحن حريصون على علاقتنا الطيبة، ويكفي ما شهدته المنطقة خلال الأعوام الماضية”.

فهل يمكن اعتبار كلمات السيسي تلك بمثابة تعهدات أو ضمانات قدمها إلى السودان من أجل عودة المياه لمجاريها؟

تنازلات وتعهدات متبادلة

قد يرى كثيرون أن هذه الضمانات كافية لتبديد مخاوف السودان من أي تحرك مصري ضدها، خاصة بعد الأنباء التي تحدثت عن حشود عسكرية بمشاركة مصرية وإماراتية على الحدود بين السودان وإريتريا، أغلقت الخرطوم على إثرها تلك الحدود.

لكن آخرين يشيرون إلى أن الأمر يتجاوز تلك الضمانات الشفهية، وفي هذا السياق تزيد التكهنات بشأن ما قدمته مصر من تعهدات أفضت إلى عودة السفير وبدء إخماد نيران التوتر.

وقف التصعيد الإعلامي الذي تشارك فيه وسائل مملوكة للدولة وأخرى خاصة ضد السودان قيادة وحكومة وشعبا، يبدو في مقدمة التعهدات المصرية، لكن يبقى السودان بحاجة للمزيد، خاصة فيما يتعلق بالنزاع الحدودي على مثلث حلايب وشلاتين.

مصر في هذه الحال، يمكنها أن تقدم تعهدات قطعية بالسير في أحد الاتجاهين الذين رغب فيهما السودان منذ اشتعال الأزمة، وهما: إما القبول باللجوء للتحكيم الدولي، على غرار استعادة طابا من الاحتلال الإسرائيلي، أو التفاوض وإعادة ترسيم الحدود على غرار اتفاقية تيران وصنافير.

ويبقى الحل المرجح في هذا الإطار متمثلا في وعد مصري باللجوء إلى طاولة التفاوض، على نحو ربما يمكن مصر من المراوغة واستغلال الوقت والمماطلة، بعكس ما يترتب عليها من التزامات في التحكيم.

أما فيما يخص سد النهضة الإثيوبي، فيمكن اعتبار تصريحات السيسي السابقة ضمانة كافية لقبول مصر بالأمر الواقع في هذا الملف.

على الجهة المقابلة، يجب أن يقدم السودان أيضا ما عليه في هذه “الصفقة”، ولعل أبرز ما تريده القاهرة من الخرطوم هو إعادة النظر في شأن جزيرة سواكن، وما يستتبعها من تخفيف حدة الانفتاح على تركيا، الخصم الإقليمي اللدود لمصر، فضلا عن قطر أيضا التي تمر بعلاقات متاصعدة على نحو غير مسبوق مع السودان.

ملف جماعة الإخوان المسلمين، يبدو أنه كان هو الآخر مثار حديث محتمل في الأمر، حيث يرجح أن تطلب القاهرة من الخرطوم تسليم بعض قيادات وأعضاء الجماعة الفارين إليها، خاصة أولئك الصادرة ضدهم أحكام قضائية بعقوبات مغلظة.

ويبقى التزام كلا الطرفين بتلك التعهدات أو التنازلات المتوقعة، هو الفيصل في تجاوز العثرة الحالية في العلاقات بين البلدين، الأمر الذي يكشف عنه قابل الأيام…