سنوات طويلة من العلاقات التاريخية بين مصر وكوريا الشمالية بدأت منذ خمسينيات القرن المنصرم، ولكنها توطدت بشكل كبير عقب حرب أكتوبر 1973، وتحديدا عقب مشاركة طيارين من كوريا في الحرب.
الحديث عن العلاقات الثنائية بين البلدين يبدو طبيعيا، ولكن ما يثير اللغط حول طبيعة هذه العلاقة هو “التعاون العسكري” السري بينهما عقب حرب أكتوبر في برنامج لتطوير الصواريخ.
أمريكا ما كانت لتفوت هذا التعاون الذي تكشف بشكل كبير في تسعينيات القرن المنصرم، ولكن صعد إلى الصدارة في عهد جورج بوش، وتجدد أخيرا في اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي.
وجدد الأزمة بين أمريكا ومصر حول علاقة الأخيرة مع كوريا الشمالية، الكشف عن صفقة صواريخ لصالح الجيش المصري عن طريق رجال أعمال مصريين، فما هى قصة العلاقات بين البلدين؟، وكيف تطورت؟ وما تفاصيل الدور الكوري في حرب أكتوبر، وعلاقة مصر العسكرية السرية ببيونج يانج؟.
علاقات “متأصلة”
“تاريخية”.. هكذا يمكن توصيف العلاقات بين مصر وكوريا الشمالية، والتي بدأت اقتصادية في الأساس عام 1957 بعد انتهاء الحرب الأهلية بين الكوريتين الشمالية والجنوبية (1950 – 1953).
مرت أعوام قليلة قبل اعتراف مصر بكوريا الشمالية والشروع في تأسيس مرحلة جديدة من العلاقات القنصلية بحلول عام 1961، ثم الإعلان عن تبادل التمثيل الدبلوماسي عام 1963 على مستوى قائم بالأعمال، قبل رفع درجة التمثيل إلى مستوى السفراء في عام 1965.
علاقة كوريا الشمالية ومصر المتطورة كان جزء منها لطبيعة الأنظمة الحاكمة في البلدين وطبيعة المرحلة التي كان يمر بها العالم عقب الحرب العالمية الثانية.
وكانت نقطة التلاقي هى ميول الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتي، كما أن كوريا الشمالية كانت تحت سطرته.
الراحل جمال عبد الناصر
وبحلول عام 1976 انضمت كوريا الشمالية إلى حركة عدم الانحياز، والتي كان عبد الناصر من أهم رموزها المؤسسين في عام 1955.
وزار الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك كوريا الشمالية مرتين، الأول عام 1983 حيث التقى خلالها بالزعيم الكوري الشمالي الراحل كيم إل سونج، ووقعا اتفاقا عاما للتعاون الاقتصادي والعلمي والفني والثقافي يجدد تلقائيا، ونص الاتفاق على إنشاء لجنة اقتصادية مشتركة على المستوى الوزاري… أما الزيارة الثانية لمبارك كانت في عام 1990، بحسب وزارة الخارجية المصرية.
وفي 2007، زار زعيم كوريا كيم إل سونج القاهرة والتقى بمبارك، وتباحثا حول القضايا ذات الاهتمام المشترك والعلاقات الثنائية بين البلدين.
ومن هنا، فإن التقدم الفعلي في العلاقات بين البلدين والرغبة في تطويرها كانت خلال فترة مبارك بشكل كبير، وهذا يبرز من تصاعد توقيع الاتفاقات الثنائية والزيارات المتبادلة.
وقدمت مصر مساعدات مالية في شكل قروض ميسرة طويلة الأجل لكوريا الشمالية، هذا إلى جانب مساعدات طبية من خلال إرسال أدوية وأمصال لبيونج يانج لمواجهة آثار الفيضانات المدمرة التي تعرضت لها البلاد عام 2007.
كيم ايل سونج
حسني مبارك
علاقات عسكرية
وتمثل العلاقات العسكرية بين مصر وكوريا الشمالية محورا أساسيا بين البلدين، خاصة أنها تنطوي على درجة عالية من السرية على المستوى الرسمي.
مساعدة كوريا الشمالية لمصر في حرب أكتوبر 1973 منحت العلاقات البلدين زخما كبيرا وجعلها تخرج من محيطها الضيق منذ الخمسينيات، إلى تحقيق مصالح مشتركة.
كما وفر هذا الدعم العسكري –المحدود- انطلاقة في علاقات عسكرية سرية، كانت دائما مثار علامات استفهام لدى الجانب الأمريكي على وجه التحديد.
الفريق سعد الدين الشاذلي، كشف دور كوريا الشمالية في حرب أكتوبر، إذ أمدت مصر بطيارين مقاتلين، وهذا كان بعد زيارة لنائب رئيس كوريا إلى مصر وزيارته إلى الجبهة.
الشاذلي تحدث عن متاعب مصر بشأن إعداد طيارين في إطار تبادل الرأي استعدادا للمعركة مع إسرائيل، بعد سحب السوفيت 100 طيار كانوا يقومون بتشغيل 75 طائرة، منتهزا الفرصة ليسأل نائب الرئيس الكوري عن إمكانية إمداد مصر بعدد من طياري”ميج 21″،وبعد موافقة السادات، سافر الفريق إلى بيونج يانج للاتفاق على التنفيذ.
الفريق الشاذلي
وبعد حرب أكتوبر تولدت طموحات مشتركة من أجل إطلاق برنامج لتطوير الصواريخ محليا.
فبحسب الباحثة في معهد مديلبوري للدراسات الدولية والمختصة في الشؤون الكورية، أندريا برغر، دفع حظر شراء الصواريخ المفروض على مصر بعد حرب أكتوبر، إلى السعى لإنتاج الصواريخ محلياً وامتلاك تكنولوجيا تصنيعها، وسلمت القاهرة صاروخين سوفيتين من طراز “سكود- بي” إلى كوريا الشمالية من أجل السماح لعلمائها بفك شفرتها وتطويرها، شريطة أن تشارك كوريا الشمالية مصر في هذه التكنولوجيا.
ولكن هذا المشروع المشترك بين الدولتين يعتبر سريا غير معلن عنه حتى الآن، على الرغم من الحديث عنه مرارا وتكرارا منذ سنوات طويلة، وتحديدا في تسعينيات القرن الماضي.
وما يعزز التعاون العسكري السري، هو هروب سفير كوريا الشمالية بالقاهرة إلى الولايات المتحدة، وتسريب وثائق حول عقود تسليح بين بلاده وبعض الدول على رأسها مصر.
ولم تكن مسألة التقارب العسكري السري بين القاهرة وبيونج يانج خفية على أمريكا، ولكن طرح هذ الأمر بعد اعتبار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش أن إيران وكوريا الشمالية والعراق “محور الشر”.
وخلال زيارة مبارك إلى واشنطن في 2002، تطرق المسؤولون الأمريكيون إلى قضية التعاون في مجال الصواريخ بين مصر وكوريا الشمالية.
وأعلن المسؤول العسكري الأمريكي، حينها، أنه تم إجراء محادثات مع الجانب المصري في زيارة مبارك بشأن قضية برامج الصواريخ والتعاون مع كوريا الشمالية، وذلك بعد تقرير للاستخبارات الأمريكية رصد حفاظ مصر على تعاونها مع كوريا الشمالية في مجال الصواريخ البالستية.
ويرى مراقبون أنه لولا مصر لما كانت كوريا الشمالية تمكنت من امتلاك صواريخ بالستية لتطويرها وحمل رؤوس نووية.
حرب اكتوبر- صورة أرشيفية
شحنة صواريخ
وقد تعرضت مصر لحرج شديد دوليا، بعد كشف صحيفة “واشنطن بوست” تفاصيل علاقة مصر بسفينة الشحن التي كانت تحمل صواريخ من كوريا الشمالية.
الصحيفة نشرت تقريرا حول السفينة التي اعترضتها مصر بناء على معلومات استخباراتية أمريكية وصلت إلى الجانب المصري بالشكل الدبلوماسي في إطار العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية من قبل مجلس الأمن.
وذكرت أن رجال أعمال مصريين أجروا صفقة مع كوريا الشمالية لشراء أكثر من 30 ألف قذيفة صاروخية بملايين الدولارات لمصلحة الجيش المصري، إلا أنهم أخفقوا في إخفاء الصفقة.
وكانت واشنطن حذرت القاهرة من سفينة شحن ترفع العلم الكمبودي وتحمل اسم “جي شون” كانت تبحر باتجاه قناة السويس من كوريا الشمالية.
ورغم نفي الخارجية المصرية العلاقة بهذه الصفقة، فإن حالة من اللغط أثيرتحول دور أطراف مصرية في تسويق السلاح الكوري الشمالي في المنطقة، ربما تحت مظلة الجيش المصري.
وكشف تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة في 23 فبراير من عام 2015، أن شركة الواجهة الكورية الشمالية “Ocean Maritime Management” اعتادت تهريب الأسلحة وعملت مع أشخاص وكيانات في مصر وفي أماكن أخرى.
وأدرجت الهيئة ميناء بورسعيد ضمن الأماكن التي تمتلك كوريا الشماليّة عملاء شحن فيها، وذكرت أن موظفين تابعين للشركة الكورية المذكورة تمكنوا من التخفي داخل شركة في بورسعيد على الأقلّ حتى عام 2011.
وهذا الجزء الوارد في تقرير الأمم المتحدة يؤكد ما جاء في صحيفة “واشنطن بوست” بشأن تورط أطراف مصرية في صفقة الصواريخ.
العلاقة السرية العسكرية بين مصر وكوريا الشمالية، يمكن التدليل عليها في إطار توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي دعوة إلى زعيم كوريا الشمالية لحضور افتتاح قناة السويس عام 2015، رغم العقوبات المفروضة على بيونج يانج، والرفض الدولي لتجاربها النووية، وشن الولايات المتحدة الأمريكية حملة لمقاطعتها من خلال الضغط على حلفائها الذين تربطهم بكوريا علاقات جيدة مثل مصر.
العثور على شحنة صواريخ قبل مرورها من قناة السويس – صورة أرشيفية
قطع المعونة الأمريكية
وربط مراقبون صراحة بين قطع المعونة الأمريكية بمقدار 300 مليون دولار، وعلاقة مصر مع كوريا الشمالية.
واعتبرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية،أن قرار واشنطن حجب ملايين الدولارات من المساعدات العسكرية إلى مصر، بدعوى عدم إحرازها تقدما على صعيد احترام حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية، يستهدف في الواقع العلاقة بين القاهرة وكوريا الشمالية.
ولا يمكن إنكار التعاون العسكري المستمر بين مصر وكوريا الشمالية خلال الفترة الحالية، وهو أمر له شاهدان:
أولا: تصريحات الملحق العسكري الكوري الشمالي بالقاهرة، وأكد خلالها على مواصلة تطوير علاقات الصداقة والتعاون بين الجيشين الصديقين والتي بنيت وترسخت من خلال النضال ضد العدو المشترك، فهو إرادة الزعيم كيم جونغ وون، وموقف جيش بلاده الثابت.
وقال إنه على يقين بأن علاقات الصداقة بين الجيشين ستشهد مزيدا من التطور في المستقبل.
ثانيا: اتصال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالسيسي، والذي تطرق إلى ضرورة عمل جميع دول العالم على تنفيذ قرارات المقاطعة المفروضة من مجلس الأمن الدولي ووقف استضافة عاملين من كوريا الشمالية أو إمدادها بحوافز اقتصادية أو عسكرية.
وعلقت صحيفة Washington Examiner القريبة من إدارة ترامب قائلة إن ترامب “طلب من نظيره المصرى الالتزام بمقاطعة كوريا الشمالية”.
وكان رد فعل مصر على خفض المعونة العسكرية بناء على العلاقات المريبة مع كوريا الشمالية، إعلان قطع العلاقات العسكرية مع بيونج يانج، خلال زيارة وزير الدفاع المصري صدقي صبحي إلى كوريا الجنوبية.
السيسي و ترامب
منفعة متبادلة
وبحكم العلاقات القوية مع كوريا الشمالية، سمحت مصر بضخ استثمارات مصرية هناك، خاصة في ظل فرض عقوبات اقتصادية ومنع الاستثمار في بيونج يانج عقابا على تطوير برنامجها النووي وتهديداتها المستمرة للولايات المتحدة.
وبلغت الاستثمارات المباشرة لمجموعة شركات أوراسكوم المصرية في جمهورية كوريا ما يزيد عن نصف مليار دولار مما يضع الاستثمارات المصرية على قمة هرم الاستثمارات الأجنبية.
وتم إنشاء مشروع مشترك بين شركة أوراسكوم للصناعات البنائية OCI وشركة بيونج يانج-ميونج دانج للتجارة من أجل تحديث وتطوير وإعادة تأهيل مصنع سانج- ون للأسمنت.
كما أنشأت شركة أوراسكوم تيليكوم المصرية أول شركة وشبكة لخدمات التليفون المحمول بنظام الـ Joint Venture، وذلك مع شريكها وزارة البريد والاتصالات الكورية من خلال شركة “كوريولينك” koryolink وبتكلفة بلغت “400 مليون دولار”.
نجيب ساويرس
هذا إلى جانب دخول شركة أوراسكوم المصرية كشريك رئيسي في مشروع استكمال بناء وإنهاء تشطيبات فندق ريوجيونج الكوري وسط العاصمة ومن ثم إدارته لاحقاً بنظام حق الانتفاع؛ بالإضافة إلى المحاولات المستمرة بين شركة أوراسكوم المصرية وبنك التجارة الخارجية الكوري FTB لإنشاء بنك تجاري خاص يسمى أورابنك في بيونج يانج.
وفي المقابل، تستفيد مصر من خلال بيع السلاح الكوري الشمالي لعدة دول وأطراف إقليمية مدعومة من القاهرة في ظل الحظر المفروض من مجلس الأمن في إطار لجنة العقوبات على كوريا الشمالية، بحسب ما يرى مراقبون.
اضف تعليقا