العدسة – منصور عطية

على نحو مفاجئ يطلّ مفاعل ديمونة الإسرائيلي برأسه من جديد، مع تداول دراسة جديدة كشفت تسرُّب نفايات نووية خطيرة منه مؤخرًا، الأمر الذي يهدّد بأخطار صحية عديدة للمنطقة المحيطة بالمفاعل، فضلًا عن إمكانية وصولها لدول مجاورة.

وعلى الرغم من الكارثة التي يمكن أن تقع في أي وقتٍ ومع استمرار التحذيرات، يبقى الاحتلال على المفاعل وما يحيط به من تفاصيل سرًا استراتيجيًا ممتدًا منذ إنشائه في خمسينيات القرن الماضي.

المياه الجوفية في خطر

وأظهرت دراسة إسرائيلية في منطقة المفاعل النووي داخل ديمونة بصحراء النقب، احتمال تسرب نفايات مشعة منه ومن موقع مكب النفايات داخل المفاعل، وهذا من شأنه أن يتسبب في تلوث البيئة واختراق السلسلة الغذائية.

وترى الدراسة التي نشرتها وسائل إعلام عبرية، أمس، أنَّ الفيضانات والنباتات التي تخترق التربة قد تتسبب في انبعاث المواد المشعة من الموقع إلى البيئة.

وأوضحت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أنَّ المنطقة المغلقة حول المفاعل في ديمونة تستعمل كمكبّ للنفايات المشعة، حيث لا يدور الحديث عن دفن نفايات داخل مبنى ومكب نفايات محصن، بل دفنها وتخزينها داخل حاويات وبراميل ضحلة، قد تبلى وتتصدع وتصدأ وتتآكل، ما يعني إمكانية تسرُّب النفايات، وحتى انفجار الحاويات والبراميل.

ويستدل من البحث الذي أجري، أنه يتم دفن أو تغطية الحاويات والبراميل بالتربة بعمق مترين، ولا يعرف حجم النفايات بالمدافن التي تتسلل موادها الخطيرة للمياه الجوفية.

وفي العام الماضي، بثت القناة الإسرائيلية العاشرة تحقيقًا حول المفاعل وتعرّض العشرات من العاملين فيه للإصابة بمرض السرطان.

يذكر أنَّ مفاعل ديمونة أُنشئ عام 1957 باتفاقية سرية بين إسرائيل وفرنسا، وبدأ تشغيله في ديسمبر 1963، حسب نماذج المفاعلات المخصصة لإنتاج الكهرباء التي يفترض أن تعمل مدة 40 عامًا، مع العلم أنَّ مفاعلين فرنسيين أُقِيما في الفترة ذاتها قد أغلقا في عام 1980، كما أنَّ المفاعل الفرنسي الأقدم الذي لا يزال يعمل، قد أُقِيم في عام 1977.

وبقي كل ما يتعلق بالمفاعل سرًا حربيًا حتى عام 1986 عندما سرّب الخبير في المفاعل “موردخاي فعنونو” معلومات موثقة بنحو 60 صورة، في تقرير نشرته صحيفة بريطانية.

يقع مفاعل ديمونة في صحراء النقب جنوبي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وينتج سنويًا نحو 40 كيلوجرامًا من مادة البلوتونيوم، و96 من اليورانيوم، بما يؤهله لإنتاج نحو 10 قنابل نووية في العام الواحد، وفق تقديرات غير رسمية تعود لعام 2007.

سياسة الغموض الاستراتيجي

وتقدر تسريبات عدد الرؤوس النووية التي يملكها الاحتلال بنحو 100 إلى 200 قنبلة، فيما يتكتم الاحتلال على حقيقة ما يملكه من رؤوس نووية، ويصرّ على إحاطة تلك المعلومات بسرية تامة يرى أنها تمثل عامل ردع له، فلا يؤكدها ولا ينفيها في الوقت نفسه مطبقًا ما يوصف بسياسة الغموض الاستراتيجي.

الرئيس الإسرائيلي الراحل “شمعون بيريز” اعتبر في تصريحات تعود لعام 2011 الغموض والشائعات التي تثار حول منشأة ديمونة النووية “عامل ردع قوي لأعداء إسرائيل”.

ونقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية عنه قوله في اجتماع مع سفراء وقناصل الاحتلال بالخارج: “التكهنات التي تثار حول امتلاك إسرائيل أسلحة نووية ووجود منشأة نووية في ديمونة يمكن أن تشكل عامل ردع كافٍ لمنع أي اعتداء قد يشنه أعداء الدولة اليهودية عليها، بما في ذلك إيران”.

وتابع: “من المهم لأمن إسرائيل أن يظل أعداؤها يعتقدون أنها صاحبة اليد العليا”.

وتتلخص المخاطر المتعلقة بالمفاعل في نقاط محددة، كالتالي:

-دخوله مرحلة الخطر الاستراتيجي بسبب انتهاء عمره الافتراضي عام 1994.

-تصدع جدرانه وتشقق أساساته بما يجعلانه مصدر كارثة نووية ضخمة في أي وقت.

-إصابة الكثير من العاملين به وسكان المناطق المحيطة بأمراض السرطان متأثرين بإشعاعاته المتسربة، فضلًا عن الخطر الكامن في تلك الإشعاعات وتسريبها إلى التربة.

تحذيرات تهملها إسرائيل

وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، تخرج الدراسات الموثقة والمتخصصة الواحدة تلو الأخرى محذرة من كارثة محققة تنتظر المنطقة المحيطة بالمفاعل، إلا أنَّ سلطات الاحتلال لا تعيرها اهتمامًا.

ففي أبريل 2016، قال الكاتب في صحيفة هآرتس “حاييم ليفينسون” إن عددا من الثغرات والعيوب تم اكتشافها في المفاعل، مما دفع عددا من الخبراء المتخصصين الإسرائيليين للإعراب عن قلقهم من التقادم التاريخي له.

وأوضح “ليفينسون” إن بعض الصور التلفزيونية والموجات فوق الصوتية كشفت عن قرابة 1537 ثغرة وعيبا في مفاعل ديمونة، مشيرا إلى أن التخوف الحقيقي من المفاعل يتمثل في مدى دقة الإجراءات الأمنية لتأمينه، ومنها توفير الأمان والحماية للعاملين فيه، وصيانة المقر الدائم له خشية تعرضه لأي اهتزازات أرضية أو هجمات بالصواريخ المعادية.

وفي 2014، كشف الدكتور محمود سعادة، نائب رئيس قسم الشرق الأوسط في هيئة الأطباء الدوليين للحماية من الحرب النووية المعروفة بـ IPPNW الدولية، أنَّ هناك تسريبات نووية من مفاعل ديمونة الإسرائيلي باتت تهدّد مناطق عربية واسعة.

وأشار في تصريحات صحفية إلى أنَّ أثر تلك التسريبات لم يقتصر على الدول المجاورة كالأردن ومصر، بل تخطاها إلى المياه الجوفية على حدود ليبيا وفي منطقة تبوك السعودية، بحسب دراسة أجرها بين عامي 201 و2011 العالم الأمريكي “أفنير بنجوش” الذي يعمل في جامعة “بن جوريون” بإسرائيل.

وأشار الى أنَّ نسبة التسريب النووي من مفاعل ديمونة في تزايد، فحتى عام 2007 كان التسريب لحدود الأردن، إلا أنَّ دراسات ما بعد عام 2011 أثبتت أنَّ التلوث النووي يتزايد وخاصة بعد تسربه للمياه الجوفية.

وقال “سعادة” إنَّ الجيش المصري أجرى دراسة على شواطئ وحدود مصر مع الأراضي المحتلة فكانت أكثر منطقة ملوثة بنسب عالية من الإشعاع النووي في صحراء سيناء.

ووصف تغاضي الاحتلال عن تلك المخاطر بأنّه “جريمة نووية” تهدد المنطقة كلها، وأكّد أن ارتفاع نسبة الإشعاعات النووية في جنوب الخليل أدَّى الى زيادة كبيرة في نسبة المصابين بأمراض السرطان بمختلف أنواعه والعقم والإجهاضات المتكررة والتشوهات الخلقية للأجنة وغيرها من الأمراض المختلفة.

كوارث نووية

ولعلّ الجزئية المتعلقة بالكارثة المحتملة التي تنتظرها المنطقة من مفاعل ديمونة تحيلنا إلى سجل حافل من الكوارث النووية، يبدو أبرزها وأكثرها خطورة على النحو التالي:

-سبتمبر 1957.. انفجار مفاعل “ماياك” النووي في “أوزايورسك” في روسيا، وأطلق الانفجار كميات كبيرة من الإشعاع النووي، التي امتدت إلى 15 ألف كيلومتر، وتسببت في قتل 200 شخص، وتعرض الآلاف للإشعاع النووي.

-أكتوبر 1957.. حادث مفاعل Windscale البريطاني، حيث اشتعلت الحرائق لخمسة أيام متتالية، وتسبب الإشعاعات النووية الناتجة عن الانفجار في إصابة الكثيرين بالسرطان، وكإجراء وقائي لتفادي تفاقم آثار الكارثة، منعت الحكومة البريطانية بيع وشراء الألبان من المزارع المُحيطة بالمفاعل لمدة شهر.

-مارس 1979.. حادث محطة توليد الطاقة النووية بجزيرة Three Mile الأمريكية، والتي تسببت في ارتفاعات قياسية بنسب المصابين بالسرطان في الجزيرة.

– أبريل 1986.. كارثة مفاعل “تشيرنوبيل” بالاتحاد السوفيتيي، وهي الأكثر ضررًا في التاريخ وتسبب في وفاة نحو 20 ألف شخص، وقُدر التسرب الإشعاعي الناتج عن الانفجار بأنه أكبر 100 مرة من التسرب الإشعاعي الناتج عن قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة في اليابان، خلال الحرب العالمية الثانية.