على مدار عشرات السنوات منذ تأسيس المملكة، كان السياج الحافظ لمكانة آل سعود هو كونها راعية لشؤون بيت الله، وقائمة على خدمة زواره، والأهم، محافظة على سمت يليق بجلال المسجد الحرام.
لكن سرعان ما تغير وجه المملكة كثيرا خلال الأسابيع الماضية، ففي وقت تتصاعد فيه حملات الاعتقالات حتى طالت تقريبا كافة مشايخ المملكة عدا مفتيها وحاشيته من المشايخ المقربين، إذا بأحداث لم يكن يتوقعها أكثر المتفائلين بولي العهد الذي أخذ على عاتقه تغيير مملكة أجداده..فإذا بالرقص والاختلاط في العيد الوطني..
ففي خطوة وصفها نشطاء بأنها تشبه عودة كمال أتاتورك، رأس العلمانية التركية وأيقونتها، تصدر محمد بن سلمان، الملك المنتظر، المشهد السياسي في المنطقة العربية، وهو يخلع إرث السلفية القديم، وينصب بدلا عنها سعودية جديدة، ليست أكثر علمانية وحسب، بل علمانية متطرفة!
مشاهد رقص وغناء واختلاط جاورت بيت الله على بُعد كيلومترات من ساعة مكة العملاقة الشاهقة، مولات تنتعش بالأنغام والعباءات المفتوحة، وحجاب انتقل من الرأس إلى الخصر ليضبط إيقاع الرقص، ومشاهد غزت وسائل الإعلام العربي سريعا.. حتى إن البعض أخذ يتساءل في دهشة: ماذا يحدث؟
ليس أمرا عفويا
يشكك بعض المتابعين في كون ذلك الانتشار الواسع لتلك المشاهد، أمرا عفويا، ويصرون على أن ثمة شبهة تسويق متعمدة قام بها ابن سلمان ليؤكد للكفيل الإماراتي الصاعد أن الاتفاق الترامبي يسير على قدم وساق.
وليس أدل على ذلك من أنه وفي الصباح التالي لهذه الحفلات الصاخبة صدر قرار ملكي يمنح المرأة السعودية حق قيادة السيارة، بعد حرب لطالما خاضها التيار الوهابي من أجل التأصيل لمنعها، وتوقع كثيرون أن تحتاج المملكة عشرات السنوات لتغير قاعدتها الديموغرافية حيال ذلك، لكن الأمر تم في ليلة وضحاها.
فالمرجعية الدينية البارز في تاريخ المملكة ومفتيها العام الراحل «عبد العزيز بن باز» سبق أن أصدر فتوى خرجت عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حملت توقيعه ردا على سؤال حول مشروعية الاحتفال باليوم الوطني للمملكة، وأفتى حينها بأن ذلك «بدعة محدثة ممنوعة لما فيه من التشبه بالكفار».
ووفقا لنص الفتوى، فإن «ذلك فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف الكفار وهو بدعة محدثة ممنوعة داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ومثال ذلك الاحتفال بعيد المولد وعيد الأم والعيد الوطني لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله وكما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة، ولما في الثاني والثالث من التشبه بالكفار».
أيضا فإن مسألة «الاختلاط» و«السفور» و«سماع الموسيقى» و«الغناء» كانت من المسائل التي بذل فيها علماء السعودية جهودا كبيرة بدعم رسمي لبيان حرمتها والتنفير منها، لكن السلطات الرسمية بدا أنها نفضت يدها من تلك المسائل.. ليس على مستوى الدعم فقط.
بن سلمان.. أتاتورك
ومنذ صعود ولي العهد «محمد ابن سلمان»، أجرت المملكة تعديلات واسعة على صلاحيات «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، التي كانت تعتبر حاميا لتلك الآراء الفقهية ومراقبا لتنفيذ المجتمع تعاليمها…
وقد أدت تلك التعديلات إلى تقليص وجود الهيئة ونفوذها بشكل مفاجئ رأى بعض أكثر منتقدي أداء الهيئة وتجاوزاتها سابقا أنه ترك فراغا مفاجئا في الشارع السعودي.
لكنه في ظل التجاوزات المتزامنة مع فعاليات اليوم الوطني للمملكة، دعا ناشطون ومغردون سعوديون، إلى عودة «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» للعمل من جديد، لضبط المخالفات والمحافظة على تقاليد المجتمع السعودي المحافظ.
مطالبات تزامنت مع اعتزام مجلس الشورى السعودي التصويت على توصيات تطوير عمل «الهيئة» بعد أنباء عن دمجها بوزارة الشؤون الإسلامية، وهي التطويرات التي اعتبرها مراقبون تمهيدا لإلغاء الهيئة تماما.
تقليم أظافر الإسلاميين
يقول مراقبون إن «بن سلمان» يسعى إلى الحد من نفوذ التيار الديني، ضمن ما يسميها بـ«إصلاحات» تدفع المجتمع السعودي المحافظ بطبعه نحو مزيد من التغريب، ظنا منه أن ذلك التوجه سيجلب له رضا الغرب ودعمه لخطوة تنصيبه ملكاً.
وجاءت مظاهر الاحتفال السعودي -والذي وصفه البعض بـ«الطفرة»- متزامنة مع تغييب «هيئة الأمر بالمعروف» وبروز «هيئة الترفيه» التي يدعمها الأمير الشاب الطامح في اعتلاء العرش ولي العهد «محمد بن سلمان» ضمن رؤيته للاقتصاد السعودي المعروفة اختصارا باسم «2030»، لتشهد السعودية تغييرات حادة في طبعها المحافظ، وكان من أبرز مظاهره نشاطات «هيئة الترفيه».
وخلال الأشهر الأخيرة، فجرت أنشطة تلك الهيئة في مدن سعودية بينها جدة والرياض والدمام، والتي تضمنت حفلات راقصة وغنائية، صراعا محتدما بين التيارين المحافظ والليبرالي.
كما ذكرت صحف غربية، أن السعودية ستكسر تقاليدها الدينية الصارمة وتفتح منتجعا على ساحل البحر الأحمر، حيث سيتم السماح للأجنبيات بارتداء «البيكيني» جنبا إلى جنب مع الرجال.
ويعتبر هذا المشروع من بنات أفكار «بن سلمان»، وسيتم تمويله من قبل صندوق الاستثمار العام (صندوق الثروة السيادية) في البلاد، الذي يرأسه قبل فتح المجال أمام مستثمرين أجانب.
اضف تعليقا