العدسة – منصور عطية
“زواج كاثوليكي” لا طلاق فيه، وصفٌ على جانب كبير من الدقة، ينطبق على العلاقة التي ربطت جماعة الإخوان المسلمين والقضية الفلسطينية، منذ تأسيس الجماعة وحتى الآن.
من مؤسس الجماعة ومرشدها الأول “حسن البنا”، حتى مرشدها الثامن “محمد بديع” القابع في سجون النظام المصري، بدت فلسطين في مكانة مرموقة على رأس أولويات واهتمامات الإخوان، في أدبياتهم وبأرض الواقع على حد سواء.
الآن، ومع اندلاع الأزمة التي فجرها قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للاحتلال الإسرائيلي، قال كثيرون إن الأمر في مصر ربما كان سيختلف كثيرًا – شعبيًّا على أقل تقدير – لو كان وضع الإخوان في سابق عهده حتى قبل ثورة 25 يناير 2011.
خرجونا نحرر القدس
القضية أثارتها كلمات بديع في إحدى جلسات محاكمته قبل أيام، حين قال إن قيادات وأعضاء الجماعة معتقلون حتى تتم تصفية القضية الفلسطينية، وتابع: “فلسطين قضيتنا الأبدية.. وقضية الأمة العربية والإسلامية.. نحن محبوسون لإتمام البعض “صفقة القرن” “.
وأضاف “بديع”: “إن كل شيء يهون من أجل فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، وإن الأمة الإسلامية لن تقوم لها قائمة حتى تنصر فلسطين”.
ورد “بديع” على اتهام القاضي له بالتحريض بدعوى الدفاع عن فلسطين، بأن طالبه بإخراج المعتقلين من أعضاء الجماعة، حتى يقاتلوا من أجل فلسطين.
وفي سياق الحديث عن فلسطين والقدس، أكد مرشد جماعة الإخوان، أن الجماعة قاتلت في فلسطين، واستشهد العديد منها، وقال إن الأرض التي يقفون عليها “تُباع”.
فلسطين في أدبيات الإخوان
دراسة نشرها مركز “الزيتونة” للدراسات والاستشارات، في يناير 2012، قالت إن البنا عدَّ الوطن الإسلامي وطناً واحداً، وأمةَ الإسلام أمةً واحدة، مذكرة بقوله الشهير: “إن كل أرض يقال فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هي جزء من وطننا، له حرمته وقداسته، والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره”.
وعلى ذلك، فإن اهتمام “البنا” بقضية فلسطين جاء في السياق الطبيعي لفهمه الإسلامي، وفي صميم برنامج عمله، ولذلك يؤكد أن “فلسطين وطن لكل مسلم؛ باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله”.
وفلسطين في فهم الإخوان “أرض وقفٍ إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة، لا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يفرّط أو يتنازل ولو عن جزء صغير جدًّا منها، ولذلك فهي ليست ملكاً للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعًا”، وفق الدراسة.
ومن أدبياتهم أيضًا، أن فلسطين “ليست قضية وطن جغرافي بعينه، وإنما هي قضية الإسلام.. فما فلسطين إلا قطعة مصابة من الجسد الإسلامي العام، ولَبِنة مزعزَعة من لبنات بنيانه، فكل قطعة لا تتألم لألم فلسطين ليست من هذا الجسد، وكل لبنة لا تختلُّ لاختلال فلسطين ليست من هذا البنيان”.
” حسن البنا “
ولذلك، رأى “البنا” “وجوب الجهاد لتحرير فلسطين ونصرة أهلها”، وذكر في رسالة بعثها إلى السفير البريطاني في القاهرة: “إن الإخوان سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلامياً عربياً، حتى يرث الله الأرض ومن عليها”، وفي رسالة بعثها إلى رئيس وزراء مصر محمد محمود: “إن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، وهي لغة الثورة والقوة والدم”.
ولا تخلو أدبيات الإخوان المنشورة في الثلاثينيات والأربعينيات من إشارات إلى الأهمية الإستراتيجية لفلسطين، واعتبارها نقطة الاتصال بين البلاد العربية وآسيا وإفريقيا، وإلى أن قيام دولة لليهود في فلسطين يعني أن تكون تلك الدولة قاعدة للاستعمار الغربي، وسلاحًا مسمومًا لطعن البلاد العربية، كما أنها تنذر البلاد العربية بالتمزق والتفرق، وتهددها من ناحية الوجود والكيان، بحسب الدراسة سالفة الذكر.
الاحتكاك العملي والمتطوع رقم (1)
“احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق.. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية، مهما كانت جنسياتهم أو نحلهم، تبرعوا بالأموال للأسرة الفقيرة والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل.. تطوعوا إن استطعتم، لا عذر لمعتذرٍ فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان”.. كانت هذه كلمات من مقال للبنا نشرته مجلة “النذير” عام 1938.
ورغم أن الجماعة كانت في بداية نشأتها، وتواجه مناخًا صعبًا من الاحتلال الإنجليزي والقوى السياسية القديمة المتربصة بها، إلا أن اهتمام “البنا” وإدراكه لأهمية الوقت وخطورة الإحداث، جعله يسارع بالعمل في هذا الميدان، ويبذل جهدًا كبيرًا في توعية الأمة وإيقاظها، لتتبنى هذا الأمر وتُدرك مدى الخطر.
واستطاع بين عامي 1932 و1942، أن يُحدث تحولاً كبيرًا في الشارع المصري، ثم يحول هذا التحول إلى وسائل ضغط، وإلى مسارات عملية للدعم والمساندة.
ومن بين تلك الوسائل، التوعية العميقة لأفراد الجماعة، وكذلك توعية الأمة بالقضية وبالأحداث المتتالية وبشتى السبل، استثمارًا لانتشار أعضاء الجماعة وكوادرها في القرى والنجوع، بالخطب والمنشورات، والندوات والمؤتمرات الجماهيرية، والتظاهرات والفعاليات الأخرى، في المناسبات الإسلامية، وخاصة ذكرى الإسراء والمعراج.
كما نظمت الجماعة حملات متنوعة لجمع التبرعات لدعم المجاهدين والشعب الفلسطيني، ومن أبرزها حملة “قرش فلسطين” عام 1939، وحملات المقاطعة للمؤسسات اليهودية الموجودة في مصر، التي كانت تمول عملية الاستيطان اليهودي.
وفي عام 1947، نظَّم الإخوان المؤتمر الشعبي لنصرة فلسطين بالجامع الأزهر، وتلا فيه “البنا” بيان الإخوان بإعلان “الجهاد المقدس لتحرير فلسطين”، كما تواصل مع المسؤولين العرب والمصريين في هذه المرحلة، ببرقيات ورسائل تتضمن اقتراحات عملية لمواجهة أخطار المشروع الصهيوني.
التواصل مع الفلسطينيين
بالتزامن مع ما سبق سرده، بدأ “البنا” التواصل مع قادة وعلماء ومشايخ فلسطين، وفي مقدمتهم مفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني، منذ عام 1929، وكذلك تقدَّم له بمذكرة إجراءات عملية للمؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس عام 1931.
وكان “الحسيني” يضع ثقته في الإخوان، وقد قال عنهم: “إني أومن بالإخوان المسلمين؛ لأنهم جند الله الذين يهزمون جنود الشيطان”.
كما تواصل مع العالم الفلسطيني السوري، الشيخ “عز الدين القسام” منذ عام 1933 وما بعدها، ودأب على تقديم الدعم والمساندة.
أرسل “البنا” الضابط بالجيش المصري محمود لبيب، للتدريب الميداني والصلح بين قادة منظمتي “النجادة” و”الفتوة” اللتين كانتا تجاهدان في فلسطين عام 1948؛ وذلك لتحقيق الوحدة والتئام الصفوف.
وأوفد إلى هناك وفودًا عسكرية وغيرها، للمساندة وتنظيم أعمال المقاومة، والتمهيد لدخول الإخوان ميدان الجهاد في فلسطين، كما زار نفسه أرض فلسطين، انطلاقًا من غزة عند زيارته لمواقع المجاهدين.
وفطن الرجل إلى أهمية الضغط على الحكومات الأجنبية، واتخاذ المواقف القوية تجاه الأحداث، والتحرك على المستوى العالمي، بتوجيه خطابات التحذير للحكومات الغربية، خاصة إنجلترا وأمريكا، إزاء ما يقدمونه من دعم للمشروع الصهيوني.
وعند اعتراف أمريكا بإسرائيل، بعث “البنا” برقية إلى الرئيس “ترومان” قال فيها: “اعترافكم بالدولة الصهيونية إعلان حرب على العرب والعالم الإسلامي، وإن اتباعكم لهذه السياسة الخادعة الملتوية لهو انتهاك لميثاق هيئة الأمم والحقوق الطبيعية للإنسان وحق تقرير المصير”، بحسب موسوعة الإخوان المسلمين.
وعندما صدر قرار التقسيم من الأمم المتحدة وجه “البنا” نداءً ناشد فيه الحكومات العربية والإسلامية بأن تنسحب فورًا من الأمم المتحدة، وأن تتهيأ الشعوب الإسلامية للدفاع عن فلسطين.
ورفض مؤسس الإخوان مشروع التقسيم الثلاثي، الذي تقدَّمت به اللجنة الملكية البريطانية عام 1937، تحت ضغط حركة الجماهير، وثورة أهل فلسطين الكبرى؛ حيث اقترحت تقسيم أرض فلسطين إلى ثلاثة أقسام: قسم لليهود، وآخر للعرب، وثالث يبقى تحت سيطرة بريطانيا مباشرة.
ورفض الإخوان مشروع اللجنة الأمريكية البريطانية، الذي يقضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود؛ وذلك قبل عرضه على الأمم المتحدة، التي أجازته في نوفمبر 1947.
على أرض الجهاد
أما المشاركة العسكرية الميدانية داخل فلسطين، وقتال العصابات الصهيونية، فقد بدأ الاستعداد لذلك مبكرًا، بإنشاء “النظام الخاص”، وتدريبه للجهاد في فلسطين وعلى ضفاف القناة ضد الإنجليز.
وتواصلت الجماعة للمساعدة في جمع السلاح وإيصاله للمجاهدين داخل فلسطين، وكان “الصاغ محمود لبيب” على صلةٍ وثيقة بالشهيد عبد القادر الحسيني لهذا الأمر، وأصبح هو ضابط الاتصال بين الإخوان والهيئة العربية العليا في شؤون التسليح المشكلة لفلسطين.
وكان هذا محورًا أساسيًّا في عام 1946 وما بعدها، في الدفع بالمئات من شباب الإخوان إلى أرض فلسطين، الذين تمكنوا من التسلل إلى هناك، في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تحت مظلة جامعة الدولة العربية، بعد إعلان قيام إسرائيل في مايو 1948.
وكان لدخول الإخوان أرض فلسطين تأثير كبير، وشكَّلوا خطرًا شديدًا على اليهود، الذين ضجُّوا بالشكوى، وطالبوا بسرعة التدخل لإيقاف ذلك.
وفي كتابه عن دور الإخوان في فلسطين، أورد الكاتب السعودي “عبد الله العقيل”، شهادات لعدد من الكُتَّاب والعسكريين الذين عاصروا حرب فلسطين.
ومن بينها، شهادة الفريق طيار “عبد المنعم عبد الرءوف” في مذكراته عن دور كتائب الإخوان المسلمين في حرب فلسطين، فيقول: “لقد اشتد القتال ضراوة بين أشقائنا الفلسطينيين والعدو الصهيوني قُبَيْل 15/5/1948، فتشكلت الكتيبة الأولى من مُتطوعي الإخوان المسلمين، التي تم تدريبها في معسكر هايكستب، أبريل ومايو 1948، وعدد أفرادها 280 مُجاهدًا”.
الفريق طيار “عبد المنعم عبد الرءوف”
وكذلك شهادة للضابط محمد حسن التُّهامي، حول واقعة اغتيال الشهيد البطل أحمد عبد العزيز؛ حيث يشير إلى دور الحكومة المصرية ذلك الحين في هذه الواقعة، تواطؤا منها مع إسرائيل، بعد النجاحات التي حققها على جبهتي النَّقب والقدس خلال حرب النكبة.
ومن بين أهم الشهادات التي أوردها “العقيل” شهادة الكاتب اليساري الراحل “رفعت السعيد”، والذي كان يعتبر نفسه أكبر خصم سياسي للإخوان؛ حيث أشار لأسبقية الإخوان المسلمين في الدخول إلى ميدان الجهاد في فلسطين، وأن ذلك عمق كثيرًا من البُعد العربي والإسلامي لدعوة الإخوان.
” رفعت السيد “
وأورد الكاتب شهادات لعدد من قيادات العمل الاستخباري في مصر والولايات المتحدة، ممن حاربوا الإخوان المسلمين، ومن بينهم “صلاح نصر”، رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق، و”ريتشارد ميتشيل” الخبير الأمريكي.
تحولات دراماتيكية “فيما بعد البنا”
كل ما سبق كان مرحلة، وما لحقها مرحلة أخرى، في تاريخ علاقة الإخوان بالقضية الفلسطينية، تحديدًا منذ اغتيال حسن البنا عام 1949، ثم بعدها أحداث يوليو 1952، وما تعرضت له الجماعة من قمع أمني غير مسبوق، في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
” جمال عبد الناصر “
وبمجيء خلفه أنور السادات، عمد إلى الاستعانة بالإخوان، خاصة في الجامعات والنقابات لمواجهة التيار الشيوعي، واستغل الإخوان الفرصة في تجديد العلاقة القوية بالقضية الفلسطينية، عبر حملات التوعية الشعبية، والدعم المالي، والمقاطعة الاقتصادية، والتظاهرات، والمؤتمرات، والفعاليات الأخرى المساندة للقضية.
اختلف الأمر كثيرًا، منذ توقيع معاهدة “كامب ديفيد” للسلام مع إسرائيل، وحملة الاعتقالات التي شنها السادات قبل اغتياله عام 1981، ومن بعدها مجيء الرئيس الأسبق حسني مبارك.
خصوصية العلاقة التي ربطت “مبارك” بالاحتلال، إلى الحد الذي اعتبر فيه كنزًا إستراتيجيًّا له باعتراف قادته، أثرت سلبًا على علاقة الإخوان بفلسطين، لكن الأمر استمر على منوال الدعم خاصة بعد تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس على يد أحمد ياسين، والتي تعتبر الامتداد الفكري والتنظيمي لجماعة الإخوان.
وبخلاف ما قدمته الجماعة من دعم بمختلف الطرق سالفة الذكر، كانت التظاهرات التي تزامنت مع الأحداث الجسام في فلسطين هي الحدث الأبرز، فيما يخص دور الإخوان في دعم فلسطين خلال حكم “مبارك”.
بدءًا من الانتفاضة الفلسطينية الأولى “انتفاضة الحجارة” عام 1987، مرورًا باتفاقية أوسلو للسلام عام 1993، ومذبحة الحرم الإبراهيمي 1994، والانتفاضة الثانية عام 2000، وصولًا إلى العدوان الإسرائيلي على غزة أواخر 2008 أوائل 2009.
دفعت الجماعة الثمن بحملات اعتقالات ضخمة في صفوف قياداتها وأعضائها، طالت الآلاف منهم، أثناء أو قبل الفعاليات، التي كانت تنظمها تضامنًا مع القضية.
وظلت المطالب الأساسية التي كانت تُرفع دائمًا متمثلة في قطع العلاقات مع الاحتلال، وطرد السفير الإسرائيلي، وإلغاء معاهدة السلام.
وباندلاع ثورة يناير 2011، ووصول الإخوان إلى حكم مصر، كان التغير الأبرز في منحنى العلاقة، ولعبت الجماعة دورًا بارزًا في توفير الدعم السياسي والدبلوماسي، وربما العسكري أيضًا، للمقاومة الفلسطينية.
“مرسي” يستقبل هنية وخالد مشعل
وتجلى الشاهد الأبرز في هذا المضمار، بتدخل الرئيس السابق محمد مرسي لإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة في فبراير 2011، وكلمته القوية الشهيرة التي حذر فيها من استمرار العدوان.
ثم كان التحول الأكثر دراماتيكية في الإطاحة بمرسي في يوليو 2013، ليخفت الصوت كثيرًا، وسط علاقات شائكة ربطت النظام المصري الجديد بقيادة الرئيس عبد الفتح السيسي بالقضية الفلسطينية، واتهامات متلاحقة طالته بالانحياز لطرف دون آخر، وبتطبيع غير مسبوق للعلاقات مع الاحتلال، وحديث عن مخطط لتصفية القضية الفلسطينية عبر “صفقة القرن”.
السيسي و “نتنياهو”
ووسط عالم مضطرب، وحرب لا هوادة فيها تستهدف استئصال شأفة الجماعة، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي، ودول الثورات على وجه التحديد، اضطرت حركة حماس إلى إعلان وثيقتها السياسية الجديدة في مايو الماضي، والتي تضمنت فك الارتباط التنظيمي بجماعة الإخوان المسلمين.
ولعل ما تقدم من تاريخ أقره الخصوم قبل الأصدقاء والأتباع، يعزز من كلمات يرددها كثيرون هذه الأيام، وسط محنة القدس، من أنه لو كان الإخوان هنا لاختلف الوضع كثيرًا.
اضف تعليقا