“راشد الغنوشي”، مفكر وسياسي تونسي اختبر جميع محطات العمل السياسي من السرية إلى العلن، تماما كما اختبر السجون والحكم أيضا، يرتقب الجميع انتخابه، الأربعاء، رئيسا لبرلمان بلاده.

“الغنوشي” (78 عاما) ينحدر من الحامة بمحافظة قابس (جنوب)، المدينة التي أنجبت “محمد علي الحامي”، رئيس أول نقابة تونسية في عشرينات القرن الماضي، حين كانت تونس ترزح تحت نيران الاستعمار الفرنسي.

مفكر وسياسي عاش حياته مطاردا في بلده، منفيا خارجها، قبل أن تفتح له ثورة يناير/كانون الثاني 2011 أبواب العودة، لتتصدر حركته المشهد السياسي.

الناصري الذي أصبح إسلاميا

في ستينات القرن الماضي، كان “الغنوشي” معجبا بالتيار الناصري، وهو الذي درس بالعاصمة المصرية القاهرة لعامين بعد إنهاء تعليمه في جامعة الزيتونة بتونس عام 1963.

إثر ذلك، انتقل إلى دمشق بسوريا عام 1964 قادما من القاهرة التي غادرها إثر تسوية بين الرئيسيْن حينها التونسي “الحبيب بورقيبة” (حكم من 1957 إلى 1987) والمصري “جمال عبدالناصر” (حكم من 1956 إلى 1970) وطلب تونس ترحيل طلبتها في مصر إليها.

وفي عام 1968، حصل الغنوشي على الإجازة في الفلسفة من جامعة دمشق، وغادر إلى العاصمة الفرنسية باريس لإكمال دراسة الدكتوراه، والتحق بجماعة الدعوة والتبليغ ذات التقاليد الخاصة.

الحركة الإسلامية وعشرية الصراع

في 1969، شكّل لقاء “الغنوشي”، أستاذ الفلسفة العائد حينها من سوريا وفرنسا، و”عبدالفتاح مورو” (طالب الحقوق) و”احميدة النيفر” (أستاذ تفكير إسلامي)، الخطوة الأولى على طريق تأسيس “الحركة الإسلامية” المعاصرة بتونس.

وفي 1972، أسس “الغنوشي” صحبة مجموعة من رفاقه تنظيم “الجماعة الإسلامية”، خلال اجتماع ضم 40 قياديا بمنطقة مرناق، إحدى الضواحي الجنوبية للعاصمة تونس، وانتخب رئيسا لها.

وبالإعلان عن تأسيس “حركة الاتجاه الإسلامي” خلال مؤتمر صحفي عقد في السادس من يونيو/حزيران 1981، بدأت عشرية ملاحقات “الغنوشي” وصراعه مع السلطة.

ورغم إعلان الحركة تبنيها العمل السياسي الديمقراطي السلمي، لكن نظام “بورقيبة” حاكم “الغنوشي” ورفاقه خريف 1981، وأصدر بحقه حكما بالسجن لـ11 عاما، ولم يغادر محبسه إلا في أغسطس/آب 1984 بعفو رئاسي.

وفي مارس/آذار 1987، اعتقل أمن “بورقيبة” “الغنوشي” من جديد، على خلفية تهم أبرزها “قيادة تنظيم غير معترف به”، وحكم بحقه بالسجن مدى الحياة خريف العام نفسه.

وإثر وصول “زين العابدين بن علي” إلى السلطة في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، تم إطلاق سراح “الغنوشي” في مايو/أيار من العام التالي.

وعقب انتخابات أبريل/نيسان 1989 التي شاركت فيها حركة النهضة عبر دعم قائمات مستقلة، غادر “الغنوشي” تونس في منفى اختياري، قبل أن تصدر بحقه المحكمة العسكرية بتونس، صيف 1992، حكما بالسجن المؤبد بتهمة “الإعداد للانقلاب على نظام الحكم”.

سنوات المنفى والثورة

في عام 1993، استقر “الغنوشي” نهائيا بالعاصمة البريطانية لندن، فيما استمر نظام “بن علي” في حملته الشرسة ضد منتسبي حركته، أطلق عليها “الغنوشي” نفسه اسم “الهولوكست النوفمبري”.

ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 1991، شغل “الغنوشي” منصب رئيس “النهضة” بانتخابه، وذلك إثر 3 مؤتمرات عقدتها الحركة في الخارج؛ وهي المؤتمر السادس في ديسمبر/كانون الأول 1995 بسويسرا، والمؤتمر السابع في أبريل/نيسان 2001 بهولندا، والمؤتمر الثامن في مايو/أيار 2007 في لندن.

وفي الوقت الذي كان فيه عدد المؤمنين بإمكانية التغيير في تونس يتضاءل ويقل فيه الأنصار حول “الغنوشي”، أطلق “محمد البوعزيزي” من محافظة سيدي بوزيد وسط تونس، شرارة ثورات الربيع العربي.

وفي 14 يناير/كانون الثاني 2011، سقط النظام وفرّ “بن علي” إلى منفاه الأبدي، وعاد “الغنوشي” في 30 من الشهر نفسه إلى تونس، ليستقبله عشرات الآلاف من أنصاره.

وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، فازت “النهضة” بالانتخابات التشريعية، وشكلت أول حكومة منتخبة بعد الثورة ضمن ائتلاف “الترويكا” مع حزبي “المؤتمر من أجل الجمهورية” و”التكتل الديمقراطي من أجل الجمهورية” العلمانيين.

مصاعب الحكم وغضب الداخل

واجه “الغنوشي” باعتباره رئيس الحركة الحاكمة، مصاعب كبيرة في مواجهة الأحداث، حيث تخلت عن الحكم في نهاية 2013 بعد اغتيالات سياسية شملت معارضيْن يساريين، واحتجاجات قادها تحالف بين اليسار الماسك بالنقابات ومنتسبي النظام القديم الذين شكلوا حزب “نداء تونس” في يونيو/حزيران 2012.

وفي انتخابات 2014، انهزمت الحركة أمام “نداء تونس”، لكنها شاركت الأخير الحكم، بتوافق رعاه الرئيس الراحل “الباجي قايد السبسي” و”الغنوشي”.

لكن وفي الوقت الذي يعتبر فيه البعض أن “الغنوشي” نجح في تجنيب حركته مصيرا مشابها لما حدث لإخوان مصر صيف 2013، لكن رصيد الحركة نزل من 89 نائبا (من أصل 217) في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، و69 في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014، إلى 52 باقتراع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحافظت -رغم ذلك- على صدارة الترتيب، الأمر الذي يجعل تشكيل الحكومة من مهامها.

ولوهلة، اعتقد مراقبون أن “الغنوشي” سيترشح لرئاسة الحكومة، لكن يبدو أن رفض حزبيْن محسوبين على قوى الثورة للأمر جعله يحوّل وجهته إلى رئاسة البرلمان.

منصب يأتي في نهاية حياة سياسية سيغادر فيها “الغنوشي” رئاسة الحزب في المؤتمر الحادي عشر المزمع عقده في مايو/أيار المقبل، حسب القانون الداخلي للحركة، وسط تململ داخلي في صفوف قيادات الحزب ممن يعتبر بعضها أن “الغنوشي” “أبو الديمقراطية” في التيارات الإسلامية لم يكن ديمقراطيا داخل الحركة.

و”الغنوشي” يحظى بعلاقات دولية جيدة، وبرصيده أكثر من 20 كتابا ترجم البعض منها إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية والتركية.