يسلط رد الولايات المتحدة الضعيف على الضربات الإيرانية ضد منشآت “أرامكو السعودية” الضوء على ما أصبح اتجاها متزايد الأهمية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة؛ حيث تراجعت رغبة واشنطن في استثمار الموارد العسكرية والاقتصادية دفاعا عن أمن حلفائها. وفي الوقت الذي قدم فيه الرئيس “دونالد ترامب” هذا التحول تحت “شعار أيديولوجي”، فإنه لم يكن من بنات أفكاره، بل تماشى مع موقف الرئيس “باراك أوباما” الذي أعلنه سابقا. كما يتبنى العديد من السياسيين والمشرعين من الحزبين في واشنطن اليوم أشكالا مختلفة من هذا النهج الهادف إلى تقليل مسؤولية الولايات المتحدة تجاه الحلفاء، وهو ما قد يكون له تداعيات مهمة على نظام التحالفات العالمي.
عواقب غير مقصودة
أولا، لا يمكن للمرء أن يناقش رغبة الولايات المتحدة في تجنب التشابك الخارجي دون الإشارة إلى ارتباطاتها الطويلة والمكلفة في أفغانستان والعراق. وأصبح من الصعب على الأمريكيين مناقشة أي عمل عسكري محتمل، باستثناء ربما الهجمات الخاطفة باستخدام الطائرات بدون طيار ضد الجماعات الإرهابية المعزولة، دون الإشارة إلى احتمال الخروج في مهمة عسكرية أو تصعيد قد يجر الولايات المتحدة إلى مستنقع آخر.
ويبدو أن الخيارات المحدودة بين الحرب واسعة النطاق وعدم اتخاذ أي إجراء على الإطلاق قد تبخرت إلى حد كبير من الخطاب الأمريكي، حيث لا يثق الجمهور ولا صناع القرار في القدرة على القيام بتلك العمليات أو احتواء آثارها. ويقيد هذا أيدي صانعي القرار في الولايات المتحدة، ويمنع الاستخدام الحكيم للقوة العسكرية. ونتيجة لذلك، تتندنى مصداقية التهديدات الأمريكية باستخدام القوة مع ارتفاع عتبة الأعمال التي تبرر الرد العسكري، وهو ما يعطي الجهات الفاعلة المخربة مجالا أكبر بكثير للعمل.
ثانيا، عندما يتعلق الأمر بالحلفاء، لا يركز “ترامب” على القضية المجردة للنظام العالمي، بل على السؤال الملموس قصير المدى، أي سؤال ما أهمية هذا التدخل بالنسبة لنا؟ لهذا السبب، فضل البيت الأبيض مبيعات الأسلحة للحلفاء المعرضين للتهديد بدلا من نشر القوات على أراضيهم؛ حيث يتصرف على افتراض أن بيع أنظمة الأسلحة باهظة الثمن لتلك الدول سيجعلها قادرة على الدفاع عن أنفسها مع إفادة الاقتصاد الأمريكي في الوقت نفسه. وتساعد هذه الاستراتيجية “ترامب” في حملته من أجل إعادة انتخابه عام 2020. ولكن كما اتضح من تدخل المملكة العربية السعودية في اليمن، فإن حتى أنظمة الأسلحة الأغلى ثمنا والأكثر تكلفة، لم تكن قادرة على مواجهة التهديدات الاستراتيجية، إذا لم يتم تشغيلها من قبل قوات مختصة في سياق استراتيجية متماسكة.
ثالثا، يعد الاعتقاد السائد بأن الولايات المتحدة أصبحت الآن “مستقلة في مجال الطاقة” غير دقيق بشكل تام، لكنه يظل مهما في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، لأن الرئيس يصدقه. ومن المؤكد أن أسواق النفط لا تزال عالمية، وبالتالي فإن أسعار مشتقات النفط في الولايات المتحدة ليست معزولة عن العرض والطلب في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فإن حقيقة أن العديد من أكبر موردي الطاقة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، متواجدون في الشرق الأوسط، تقلل بالتأكيد من الأهمية النسبية للمنطقة في سوق النفط.
الاستجابة الأمريكية
ويقودنا كل هذا إلى الحد الأدنى من الرد الأمريكي في أعقاب الهجوم الإيراني المدمر على منشآت النفط السعودية في “بقيق” و”خريص”. وعلى الرغم من انسحاب “ترامب” من الاتفاق النووي الإيراني، أو ما يسمى بخطة العمل الشاملة المشتركة، وفرضه حملة “أقصى ضغط” ضد طهران، يظل من غير المحتمل أن تستسلم إيران لمطالب الولايات المتحدة، وسوف تستمر على الأرجح في الضغط من أجل المساومة لتخفيف الضغوط الأمريكية. وقد فعلت طهران ذلك بحذر في البداية، ولكن بعد ذلك ازدادت وقاحة وجرأة عندما اكتشفت أن البيت الأبيض سيفعل كل ما هو ضروري لتجنب المواجهة. وفي الواقع، يبدو أن هجمات إيران على شحنات النفط في الخليج، وعلى طائرة مراقبة أمريكية متقدمة بدون طيار، قد زادت من رغبة “ترامب” في مقابلة الرئيس “حسن روحاني” لحل المأزق بين بلديهما.
لكن ما الذي سيتعلمه حلفاء الولايات المتحدة الآخرون من هذا الرد الضعيف على الهجوم على حليف رئيسي لواشنطن؟ بالتأكيد الدرس الأول هو أنه يجب أن يكونوا مستعدين لمواجهة تحدياتهم الأمنية وحدهم.
ومن المؤكد أن القضية السعودية فريدة من نوعها حيث تحضر العديد من العوامل التي تجعل من غير المرجح أن تندفع الولايات المتحدة نحو الدفاع عن المملكة، حيث لا تحظى الرياض بشعبية كبيرة في أمريكا منذ مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”، ومع التداعيات الإنسانية للحرب في اليمن، ودورها المزعوم في هجمات 11 سبتمبر/أيلول. إضافة إلى ذلك، فإن سياسات ولي العهد “محمد بن سلمان” الخاطئة، والهزيمة التي تعرض لها إلى حد كبير في الملفات السياسية، فضلا عن الأداء الضعيف للجيش السعودي، قد دفعت على الأرجح مناصري المملكة الأقوى في واشنطن إلى التوقف وإعادة النظر في العلاقات الثنائية.
ومع ذلك، فإن الهجمات الأخيرة تسلط الضوء على اتجاه أكبر بكثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة من المؤكد أن آثاره ستتعدى السعودية. فقد تجد (إسرائيل) أن الحقائق الجديدة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، التي لم تعد تسمح بافتراض أن الولايات المتحدة ستدافع عن الحلفاء الذين يواجهون تهديدات استراتيجية على أي حال، تتطلب إعادة تقييم عام لخطط الطوارئ. ونظرا لأن افتراضات الأمس حول مدى التزام الولايات المتحدة نحو حلفائها قد أصبحت موضع شك، فقد يمثل ذلك تشجيعا لأعداء اليوم للمضي قدما في استراتيجيات أكثر عدوانية.
اضف تعليقا