على مدار السنوات التي شهدت الأزمة السورية، برزت سياسات المملكة العربية السعودية تجاه سوريا كدليل واضح على حالة من التناقض والارتباك. فمن مطالباتها المبكرة بإسقاط نظام بشار الأسد إلى عودتها لتطبيع العلاقات معه، يمكن وصف السياسة السعودية في هذا السياق بأنها سلسلة من التراجعات والتقلبات التي عكست ضعف الرؤية السياسية وغياب الثبات في المواقف.

مع انطلاق الثورة السورية، حاولت السعودية الظهور في دور الداعم الرئيسي للشعب السوري ضد النظام القمعي. في 2012، جمعت المملكة 72 مليون دولار تحت حملة تبرعات “نصرةً للشعب السوري”، بينما كانت تصريحات مسؤوليها، مثل الأمير سعود الفيصل، تؤكد على ضرورة تسليح المعارضة المتمثلة بـ”الجيش السوري الحر”. بل ووصفت الرياض النظام السوري بأنه فاقد للشرعية والهوية العربية، مطالبةً برحيل الأسد.

مع ذلك، سرعان ما بدا أن هذه التصريحات لا تعدو كونها شعارات للاستهلاك الإعلامي. فعلى الرغم من تنظيم السعودية اجتماعًا في الرياض عام 2015 لتوحيد المعارضة، إلا أن هذا الدعم لم يرقَ لمستوى حقيقي من الالتزام. 

بل كانت هناك أدلة متزايدة على أن الدعم السعودي للمعارضة اتسم بالانتقائية والتلاعب، حيث اعتمدت الرياض على تقديم الدعم بشكل محدود للحفاظ على أوراق الضغط دون الانخراط في مواجهة جادة مع النظام السوري وحلفائه.

قسد ونظام بن سلمان

شهدت السياسة السعودية تجاه سوريا تحولًا ملحوظًا مع صعود محمد بن سلمان إلى السلطة الفعلية عام 2017. ركزت الرياض جهودها على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المدعومة أمريكيًا، والتي كانت في مواجهة مباشرة مع فصائل الثورة السورية المدعومة تركيًا. 

في 2017 و2019، قام وزير الدولة السعودي ثامر السبهان بزيارة الرقة وعقد لقاءات مع قادة “قسد”. كما قدمت السعودية دعمًا ماليًا بقيمة 100 مليون دولار لهذه القوات، بزعم تحقيق الاستقرار في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

هذا الدعم أثار تساؤلات حول نوايا السعودية الحقيقية، خصوصًا أن “قسد” كانت في صراع مع المعارضة السورية المسلحة، التي لطالما زعمت الرياض دعمها. وبدا أن الرياض، بدلًا من الوقوف إلى جانب الشعب السوري، فضلت التحالف مع أطراف ذات أجندات خاصة، في محاولة لتعزيز نفوذها في الشمال السوري على حساب الثورة السورية.

 

من العداء إلى التطبيع

أحد أبرز مظاهر الارتباك في الموقف السعودي تمثل في التحول الجذري تجاه نظام الأسد. ففي الوقت الذي كانت المملكة تصف فيه النظام السوري بالمجرم وتطالب برحيله، بدأت تدريجيًا في فتح قنوات اتصال معه منذ 2015.

وشهدت العلاقات دفعة كبيرة مع زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى دمشق في أبريل 2023، في خطوة رمزية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية.

هذا التطبيع بلغ ذروته بدعوة الأسد لحضور القمة العربية في جدة عام 2023، حيث رحبت الرياض بعودته إلى جامعة الدول العربية. هذا التحول أثار غضب المعارضة السورية ومناصريها، الذين شعروا بخيانة السعودية للثورة ودماء السوريين الذين دفعوا ثمنًا باهظًا في مواجهة النظام القمعي.

من جهة أخرى، لعبت وسائل الإعلام السعودية، وخاصة قناة “العربية”، دورًا بارزًا في تعزيز الرواية الرسمية وتبرير التحولات السياسية. في الوقت الذي كان الإعلام السعودي يهاجم النظام السوري في بداية الثورة، بدأ لاحقًا في الترويج لتطبيع العلاقات معه.

ومن المثير للسخرية أن “العربية” التي هاجمت قائد العمليات العسكرية للثورة، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، ووصفته بالإرهابي، عادت لتتبنى تقديمه باسمه الكامل وصفته القتالية بعد أن عادت الثورة بقيادته.

هذا التناقض يعكس الاستخدام الانتهازي للإعلام السعودي كأداة لتجميل مواقف السلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب المصداقية أو المبادئ، كذلك في سياق الأزمة الخليجية، وجهت السعودية اتهامات لقطر بدعم “جبهة النصرة” والجماعات المسلحة في سوريا.

هذا الاتهام يأتي في ظل دعم الرياض نفسه لفصائل المعارضة، ما يسلط الضوء على محاولتها المستمرة لتشويه خصومها السياسيين وتبرئة نفسها من أي مسؤولية عن تفاقم الأوضاع في سوريا.

الخلاصة بعد استعراض السياسة السعودية تجاه سوريا فهي تشهد حالة من الانتهازية والارتباك، حيث بدت المواقف السعودية محكومة بالمصالح قصيرة المدى على حساب المبادئ والالتزامات. 

هذه السياسة لم تؤدِ إلا إلى تعميق الأزمة، وخسارة الدعم الشعبي في المنطقة، وترك إرث من التناقضات التي ستظل وصمة في تاريخ الدبلوماسية السعودية.

 

اقرأ أيضًا : إفلاس فولوكوبتر.. ضربة موجعة لمشروع بن سلمان الخيالي