العدسة – منصور عطية

إمعانا في استفزاز مشاعر العرب والمسلمين بجميع أنحاء العالم، اختارت الولايات المتحدة الأمريكية ذكرى النكبة التي توافق إعلان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، لنقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة.

وبقدر ما يشكل القرار من استفزاز لعموم الشعوب، بقدر ما يضيف إلى سجل الاستهانة الأمريكية بالأنظمة الحاكمة في دول المنطقة، استمرارا للاستهانة التي عبر عنها في ديسمبر الماضي، قرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.

النكبة تتجدد

وعبر الخارجية الأمريكية، أعلنت واشنطن الجمعة، عزمها نقل سفارتها إلى القدس في 14 مايو المقبل، وقال مسؤول إن السفارة سوف تُنقل إلى مبنى خاص بالأنشطة القنصلية في حي أرنونا بالشطر الغربي من القدس المحتلة إلى حين تجهيز مبناها الجديد.

وقالت المتحدثة باسم الخارجية “هيذر نويرت” في بيان: “نحن بغاية السرور لقيامنا بهذا التقدم التاريخي، وننتظر بفارغ الصبر الافتتاح في مايو”.

ردود الأفعال كانت متسارعة على الجانبين؛ حيث سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالإشادة بالقرار الأمريكي ووصفه بأنه “يوم عظيم لشعب إسرائيل”، وقال إنه “سيحول الذكرى السبعين لاستقلال إسرائيل الى احتفال وطني أكبر”.

المتحدث الرسمي باسم حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية “يوسف المحمود”، وصف القرار بأنه يشكل “مساسا بهوية شعبنا العربي الفلسطيني ووجوده، ومساسًا مباشرًا ومتعمدًا بمشاعر أبناء شعبنا وأمتنا العربية”.

وحذرت حركة “حماس” من خطورة نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، و”تحديد موعد تنفيذ ذلك في ذكرى تهجير الشعب الفلسطيني ونكبته” معتبرة أن ذلك “يمثل تحديا صارخا لشعبنا”، كما اعتبرت أن هذه الخطوة “اعتداء جديد على حقوق الشعب الفلسطيني ومقدسات الإسلامية، واستفزاز لمشاعر أمتنا العربية والإسلامية”.

واستنكر الأمين العام للجامعة العربية “أحمد أبو الغيط” القرار “بأشد العبارات”، مشيرا إلى أنه “يمثل حلقة جديدة وخطيرة في مسلسل الاستفزاز والقرارات الخاطئة المستمر منذ ديسمبر الماضي، والذي يوشك أن يقضي على آخر أمل في سلام وتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين”.

واضاف أن “القرار الأمريكي بنقل السفارة في ذات تاريخ النكبة يكشف عن انحياز كامل للطرف الإسرائيلي وغياب أي قراءة رشيدة لطبيعة وتاريخ الصراع القائم في المنطقة منذ ما يزيد عن سبعين عاما”، مؤكدا أن هذا القرار “يُفقد الطرف الأمريكي فعليًا الأهلية المطلوبة لرعاية عملية سلمية تُفضي إلى حل عادل ودائم للنزاع”.

تزامن مكشوف

اللافت في القرار الأمريكي أنه جاء بعد يوم واحد من تصريحات للسفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة “نيكي هايلي” قالت فيها إن “اقتراح خطة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين اكتمل تقريبا”.

التصريح كان ردا على أسئلة طرحها “ديفيد إكسلرود” المستشار السابق لدى إدارة باراك أوباما، بشأن قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقالت “هايلي” عن الخطة: “أعتقد أننا في طور إنجازه”.

النشاط الأممي الأمريكي كان ملحوظا أيضا على مدار اليومين الماضيين، حيث عقد مبعوثا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، صهره جاريد كوشنر وموفده إلى الشرق الأوسط “جيسون جرينبلات” جلسة مغلقة بمجلس الأمن، الثلاثاء، طلبا فيها دعم الأمم المتحدة لخطة سلام أكدا أنها ستُنجز قريبا.

وفي أوائل فبراير الجاري أبلغ “جرينبلات” قناصل دول أوروبية معتمدين في القدس، بأن صفقة القرن “في مراحلها الأخيرة”، ونقلت تقارير إعلامية عن أحد المشاركين في اللقاء -دون ذكر اسمه- أن “جرينبلات” في معرض حديثه عن صفقة القرن أكد للمسؤولين الأوروبيين أن “الطبخة على النار ولم يبق سوى إضافة القليل من الملح والبهارات”، على حد تعبيره.

وقال المبعوث الأمريكي إن الخطة الجاري إعدادها تشمل المنطقة، وإن الفلسطينيين أحد أطرافها، لكنهم ليسوا الطرف المقرر في تطبيقها، وفي السياق ذاته يقول مسؤولون أمريكيون إن ترامب سيكشف قبل منتصف العام الحالي عن خطة لتسوية الصراع الفلسطيني، بات من المؤكد أنها هي صفقة القرن.

وهكذا تتسارع التطورات على نحو ربما لم يتوقعه أكثر المتشائمين بشأن مضي أمريكا قدما في تنفيذ خطتها، التي تهدف في المقام الأول إلى تصفية القضية الفلسطينية من مضمونها، بإخراج قضيتي القدس واللاجئين من أية مفاوضات مستقبلية تمهيدا للحل النهائي.

السماء لا تزال في مكانها!

ولعل الحديث عما يمثله قرار نقل السفارة من “استفزاز للمشاعر” لا ينطبق إلا على الشعوب العربية والمسلمة التي لا تملك من أمرها شيئا سوى الغضب تجاه مخططات الإجهاز على قضيتهم الأولى.

أما ما يتعلق بالأنظمة الحاكمة، فإن الأمر ينطوي على استهانة أمريكية وإسرائيلية واضحة بما يمكن أن يصدر من ردود أفعال، ولعل التجربة الماثلة في قرار اعتبار القدس عاصمة للاحتلال تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السيناريو ذاته يتكرر في قرار نقل السفارة.

فما كان لأمريكا أن تستهين في المرة الثانية، لولا أن مرت الاستهانة الأولى والأصعب بردا وسلاما، لتصبح الآن إمعانا في الاستهانة تصل لحد الاستهزاء.

الموقف عبرت عنه السفيرة الأمريكية بالأمم المتحدة في تصريحات السابق، عندما قالت إن عددا من الوزراء كافحوا “وهم خائفون من أن تطبق السماء على الأرض” إذا صدر إعلان من هذا النوع، في إشارة إلى قرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، لتتابع بالقول: “لكن السماء ما زالت في مكانها”.

ولعل الأمر تخطى مرحلة الاستهانة إلى اطمئنان المعسكر الأمريكي الإسرائيلي لردة فعل الأنظمة، بعدما شهده القرار السابق بشأن القدس من تنسيق غير مسبوق، حيث نقلت حينها تقارير إعلامية عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، قوله إن ترامب أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره.

وأشار إلى استبعاده ردود فعل جدية من قبل هؤلاء الزعماء تتجاوز التقديرات السائدة في واشنطن وتل أبيب، بقوله “هناك فرق بين الإعراب عن موقف معارض، وبين توجيه رسالة كسر أوانٍ”.

وتابع “كاتس”: “وبما أن الرئيس ترامب أعلن قراره بعد هذه الاتصالات فهو يعكس أنه لم يتلق مثل هذه الرسائل (كسر الأواني) من الزعماء العرب الذين يعتمدون كثيرًا في هذه الأيام على السياسة الأمريكية ويحتاجون إلى الأمريكيين، وأيضًا إلى إسرائيل، في مواجهة إيران”.

القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًا”.

وكشف مراسل القناة العبرية أن كلاً من السعودية ومصر “أعطيتا ترامب الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.

وتابع المراسل: “ومن المؤكد أن إعلان ترامب وبداية إجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يعتقد البعض أنها قد تشعل المنطقة، لم يكن ممكنًا أن يتم دون التنسيق مع السعودية ومصر، فالفلسطينيون، يدفعون ثمن التغييرات الكبرى في المنطقة”.