بعيدا عن تفاصيل التطورات السياسية والحروب والنزاعات التي تعج بها بلادنا، يحتاج المرء للحظات تدبر يتأمل فيها النماذج التي تمر به في حياته من أشخاص وجماعات ودول وأفكار وتنظيرات وأطروحات.
إذ نشاهد في الحياة حكاما طغاة يبددون ثروات شعوبهم، ويبطشون بخصومهم ومناهضيهم فينتشر الخوف من الوقوف ضدهم، وتتضخم الأوهام في أذهان البعض حتى يظنوا أن هؤلاء الطغاة لن يزولوا يوما من الحياة. ثم إذا بسنة الله في الظالمين تتحقق، فيسقط الطغاة عن عروشهم بأبسط الأسباب، مثلما حدث في اندلاع ثورات الربيع العربي إثر حادثة اعتداء شرطية تونسية على محمد البوعزيزي.
وربما لا يتعرض الطاغية لثورة تطيح به، ولكنه يتعرض لانكسارات وهزائم ومصائب تقضي على انتفاخه فيعيش ما بقي من حياته ذليلا حسيرا، مثلما حدث مع عبدالناصر الذي بلغت شهرته الآفاق، وتفنن في البطش برفاقه فضلا عن خصومه، إلى أن مُنى بهزيمة ١٩٦٧ ليفيق الناس على الحقائق وتزول السكرة ، فيهتف طلاب الجامعات بعد صدور أحكام هزلية ضد قادة الجيش المتهمين بالمسؤولية عن الهزيمة (لا صدقي ولا الغول، عبدالناصر هو المسؤول).
أما السادات الذي تملكه جنون العظمة في آخر حياته، وظهر في الاحتفالات العامة مرتديا زيا عسكريا نازيا، واعتقل قبيل مقتله بشهر أبرز الساسة والمفكرين والطلاب والشخصيات الدينية في البلاد، لم يلبث أن اغتيل فجأة وسط حراسه وجنوده.
أما مبارك الذي ظن أن له ملك مصر والأنهار تجري من تحته، وخامر رأسه مشروع توريث الحكم لنجله (جمال) سرعان ما فقد كل شيء، ليقف في قفص المحاكمة في مشهد لم يكن ليصدقه أحد قبل اندلاع الثورة.
فضلا عن النهايات المأساوية للقذافي صحاب التهديدات الشهيرة بمطاردة الثوار زنقة زنقة لينتهي به الحال قتيلا عقب العثور عليه مختبئا في ماسورة، أو رفيقه “علي عبدالله صالح” الذي دندن قائلا لثوار بلاده (فاتكم القطار) فدهسه قطار حلفاءه في نهاية تحمل من العبر والعظات الكثير.
ورأينا بأم أعيننا كيف أن دولا كبرى وأطروحات براقة أسرت عقول الملايين، تلاشت وتبخرت في النهاية كنمر من ورق لمصادمتها السنن الربانية، مثلما حدث في نموذج الاتحاد السوفيتي، الذي طالما صدع أتباعه الرؤوس بأنه النموذج الذي سيكتسح ويسود، وبشروا الناس باضمحلال الأديان وزوال تأثيرها، وبأن جدليات ماركس هي أفضل ما يفسر تطور التاريخ وحركة المجتمعات، لتنهار الماركسية على رؤوسهم وينكشف عوارها للجميع.
كما تمر بنا في الحياة شخصيات تزعم لنفسها العلم والعمق في مجالات العلوم الشرعية والإنسانية، مع سمة عامة تجمعهم ألا وهى الابتعاد عن الاشتباك مع قضايا الواقع الساخنة وأحداثه الملتهبة، وتنتفش أطروحاتهم في ظل أجواء الثورة المضادة الوحشية وما صاحبها من تراجعات، ولكن سرعان ما تنكشف الحقائق، وتظهر السرقات العلمية والفتاوى الشاذة والمنحرفة، ثم تندلع بين أصدقاء الأمس نزاعات حادة تُهتك فيها الأسرار، ويكشف بعضهم زيف بعض، فيوقن المرء أن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب).
كما تمر بنا في الحياة نماذج لشخصيات نبيلة لم تملك من أمور الدنيا سوى القليل، فانطلقت بإيمانها ترفع يد العصيان في وجه الطغاة والمستكبرين، وتتعرض في سبيل ذلك لكل أنواع الاضطهاد من سجن وتعذيب ومصادرة للأموال وتهجير وسحب للجنسيات، وصولا إلى نيلها في خاتمة حياتها شرف الشهادة ، لتثبت بلسان الحال أن الإيمان يستعلي بأصحابه على العيش في أسر الواقع المنحرف، وتضرب بجهادها وثباتها أعظم الأمثلة في الوفاء بالعهود مع الله ، فالشهادة في سبيل الله حسب الموازين الربانية ليست بخسارة ولا مغرم بل هي فوز عظيم ومغنم (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم)
الشاهد أن تأمل حكمة الله سبحاته وتعالى ولطفه ورحمته وعدله فيما يمر بنا من مشاهد يجعلنا نرى الأمور وفق منظور أشمل ، فلا نتضعضع لانتفاش باطل، ولا نيأس لتراجع أهل الحق برهة من الوقت، فنوقن أن الباطل سيزهق وأن الحق سيدمغه ، ومن ثم يختار كل منا الموقع الذي يناسبه، والدور الذي يحب أن يلقى الله به .
اضف تعليقا