لا يزال العالم ينظر للمملكة العربية السعودية كمملكة من ممالك القرون الوسطى وعصور الظلام، حيث لا تزال المرأة تكافح من أجل الحقوق الأساسية، ويتعامل النظام بطريقة تعسفية واستبدادية، وعلى الرغم من ذلك، لا زالت تتنامى أحلام النظام الملكي السعودي بالقفز نحو مستقبل عالي التقنية حيث التقدم والتطور ومشاريع تنمية الصحراء.
قبل أسابيع قليلة، عرض بن سلمان فيلماً قصيراً عن مشروع “ذا لاين” الجديد، الذي سيصبح جزءً من مشروع مدينة نيوم -أكبر مشاريع رؤية 2030، والتي ستتكلف نحو 500 مليار دولار لإتمامها، وهو مبلغ كبير وفقاً للمعايير السعودية.
روج بن سلمان لـ “ذا لاين” باعتباره “ثورة حضارية” مؤهلة لإسكان مليون شخص “من جميع أنحاء العالم”… لكن لماذا سيرغب أي شخص في الانتقال إلى هناك؟
من يشاهد الفيديو الترويجي لولي العهد أثناء عرضه خطط “ذا لاين” سيجزم أن الغطرسة هي عنوان المشهد، حيث امتزاج العظمة الملكية بإنجازات آل سعود. يبدأ الفيلم بمونتاج سريع الحركة لأعظم الإنجازات العلمية والتقنية في القرن العشرين، بما في ذلك صورة “غير واقعية” للملك المؤسس للمملكة العربية السعودية كما لو كان مبتكرًا على طراز ستيف جوبز بدلاً من صحراء يركبها الجمال. تومض التواريخ على الشاشة بخط عتيق كما نرى صور أول بث إذاعي تجاري (1920)، أول تلفزيونات ملونة (1953)، أول عملية زرع كلى ناجحة (1954)، أول رجل على سطح القمر (1969)، الانترنت، بعد تجاوز أمجاد YouTube والواقع الافتراضي، تصبح الشاشة فارغة وتظهر الكلمات، بيضاء على خلفية سوداء: “ما التالي؟”.
مشاريع بن سلمان تهدف إلى إقناع العالم أن السعودية دولة متطورة، تسعى للحداثة عن طريق مشاريع تنموية بميزانيات ضخمة، تتمحور حول الذكاء الاصطناعي والحفاظ على البيئة وانعدام الكربون والتشجير. استحضر بن سلمان هذا العالم المتطور في أقل من 20 دقيقة! يتحدث بثقة غير مبررة -بصوت أنثوي دافئ- عن إمكانية إتمام هذه المشاريع. يبدو أنه يعتقد أن الطبيعة نفسها تحت إمرته، لكنه أمر غير مفاجئ، فمحمد بن سلمان يروج لأفكار غريبة بنفس القدر منذ عام 2017، حين قدم نيوم لأول مرة، حيث تحدث عن فكرة “استمطار السحب”، والتي بها سيجلب المطر إلى الصحراء، كما يتضمن المشروع تخطيطًا حول مشاريع تحلية المياه والطاقة البديلة والزراعة الصحراوية، لكن تلك الأفكار طغت عليها الأحاديث الجامحة عن القطارات فائقة السرعة، والخادمات الروبوتات، والشواطئ ذات الرمال المتوهجة.
الغطرسة الكامنة وراء هذه المقترحات- التي تغذيها أجيال من الرجال المؤيدين (بما في ذلك المستشارون الغربيون الذين يذهبون هناك بسبب الرواتب المرتفعة) – ستكون مألوفة لأي شخص قضى وقتًا في المملكة العربية السعودية، ومع ذلك، كان من المتوقع من بن سلمان أن يتوخى مزيداً من الحذر وهو يتحدث عن هذه المشاريع وكأنه قائداً مجدداً حقاً متناسياً أنه المتهم الأول بإصدار الأمر بقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي تم استدراجه إلى القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018، ثم خنقه وتقطيعه بمنشار عظم من قبل فريق أرسل من الرياض كعقاب لخاشقجي لتجرؤه على انتقاد ولي العهد السعودي وممارساته من خلال الأعمدة التي كان يكتبها في واشنطن بوست، لتتسبب هذه الحادثة في تلطيخ سمعة بن سلمان أمام العالم كله بطريقة لم يستطع أن يتخلص منها حتى الآن خاصة بعد تقارير المخابرات الأمريكية حول تورطه في الموضوع.
التواضع ليس في جينات محمد بن سلمان، فعلى الرغم من حاجته الماسة إلى تحسين صورته، لا يزال مستمر في التنكيل بالمعارضين والتضييق عليهم بالملاحقة والاعتقال، لتستمر المملكة في نهجها القمعي دون إحراز أي تقدم فيما يتعلق بالتغيير الذي وعد به، لتقتصر التغيرات فقط على إنهاء بعض القيود الدينية والثقافية التي كانت مفروضة على المجتمع، طالما أنها لا تمس السياسة العامة للدولة.
الفيلم الترويجي الغريب لمحمد بن سلمان ليس مجرد انعكاس لطموحاته الملكية، بل يعكس شغفه بالتكنولوجيا مثله مثل ملايين الشباب السعودي الذين يشابهونه في ذلك الشغف، فبالأمس القريب كانت هذه المملكة واحدة من أفقر بقاع الأرض، حتى ظهرت تلك المادة اللزجة السوداء في رمالهم، لتنقلب الآية وتتحول البلاد إلى أغنى ممالك العالم.. فلماذا لا يؤمنون بإمكانية تواجد سيارات الأجرة الطائرة والأقمار الاصطناعية!
المثير للدهشة حقاً، هو ما جاء في الجزء الأخير من العرض الترويجي لمشروع “ذا لاين”، حيث ظهرت مجموعة صور للطرق السريعة الحضرية المزدحمة والجسور التي تذكرنا بفيلم 1982 البائس “Koyaanisqatsi، الذي قدم الحداثة على أنها خيانة للأرض، ولكن وفقًا لعرض بن سلمان، ستنقذ “ذا لاين” البشرية من هذا الكابوس، إذ سيقضي على الازدحام والتلوث ويحافظ على 95 بالمائة من الطبيعة داخل حدوده.
الأمر الوحيد الذي تغافل بن سلمان عن ذكره هو وجود آلاف الأشخاص الذين يعيشون بالفعل في وئام مع الطبيعة في نفس المنطقة: مجتمع قبلي موجود منذ قرون ومطلوب تهجيره بالقوة من أراضيه وإقامة المشروع عليها. في أبريل/نيسان الماضي، صنع أحد رجال هذه القبيلة مقاطع فيديو احتجاجًا على عمليات الإخلاء – مقاطع الفيديو كانت ذات محتوى مختلف تماماً عن ذلك الذي يحاول بن سلمان الترويج له، وكرد فعل على ذلك، قام النظام بقتله بالرصاص بعد رفضه إخلاء منزله لصالح المشروع.
يمكن لأي شخص قضى وقتًا في المدن الحالية في المملكة العربية السعودية أن يتعاطف مع الرغبة في البدء من جديد، فالمملكة مليئة بالأماكن غير المتقدمة التي تطغى عليها العشوائية وتعاني من افتقار إلى الخدمات، لكن المأساة تكمن في أن النظام بدأ بالفعل في عدد لا بأس به في إقامة عدد من المشاريع العملاقة، التي فشلت مع الأسف أو أصبحت مهجورة الآن.
أنهى بن سلمان فيلمه بكلمات بعيد كل البعد عن الواقع الذي يسيطر عليه، حيث قال ستصبح هذه المدينة “منزل لنا جميعًا – مرحبًا بكم في ذا لاين”، وهي كلمات تدفع للتساؤل حول مصير المرأة وآلاف الشباب إن فكروا في الانتقال إلى مدينة صحراوية نائية حيث المراقبة المستمرة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع والخضوع لأهواء أمير قاتل!
اللافت للنظر أن الشباب السعودي لم يتجاوبوا مع “ذا لاين”، ولم يستبشروا بالخير أبداً، بل انهالت التعليقات الساخرة والناقدة على العرض الترويجي الذي قدمه بن سلمان، والتي أكد خلالها السعوديون أن العديد من الأحياء الفقيرة والبلدات غير المتطورة الموجودة في البلاد بحاجة إلى تلك المليارات بدلاً من إنفاقها على مشاريع “وهمية” لن يستفيد منها قطاع كبير من الشعب، ليتفقوا بذلك مع مقترح سابق كان خاشقجي قد كتب عنه قبل أشهر قليلة من مقتله.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اقرأ أيضًا: الإندبندنت: الإمارات تنضم إلى قائمة بريطانيا الحمراء لحظر السفر.. والسبب؟
اضف تعليقا