الثامنة صباح الثلاثاء 10 أكتوبر، رن جرس الهاتف المحمول لـ “حمادة زغروف”، هكذا عُرف في منطقته، بعد اشتهاره بجلب وترويج الحشيش، وتكوين “دولاب” يقصده أهل المنطقة والمناطق المجاورة.
ولأنه لم يعتد على الاستيقاظ في هذا الوقت، خاصة أن الـ”بيزنس” الخاص به ليلي، لم يسمع “حمادة” الهاتف إلا في المحاولة الرابعة للمتصل، فتناوله بيد مرتعشة، وفتح الخط وهو يقول بنبرة نائمة: “ايوه مين ع الصبح”، ليرد عليه المتصل من الطرف الآخر: “ع الصبح ايه.. قوم ياروح امك وفوقلي عايزك بسرعة”..
انتفض “زغروف” من على سريره انتفاضة وقعت بسببها إحدى ألواح السرير “المولة”، وهو يرد: شـ.. شريف باشا، صباح الفل سعادتك اؤمرني”، كان “زغروف” يرتجف خوفا من داخله، ليس لأنه يتاجر في “الحشيش”، لكن لأنه لم يرسل الـ”حتة” التي وصى عليها “شريف البنهاوي”، ضابط المباحث بقسم السيدة زينب، الذي يسكن شريف بالقرب منه، في ميعادها تماما.
كان شريف عصبيا وهو يقول: “قوم يالا.. عايزك تقوم تلملي أد عشرين واحد وتجيلي القسم حالا عايزكو في موضوع، ولو اتأخرت زي ساعة ما طلبت منك الحتة البني هاجي اعلم عليك علامة مش هتروح من… يازغروف”.
ازدرد “حمادة” لعابه بصعوبة، وقال: “مسافة السكة ياشريف باشا أوامرك انا والـ 20 نفر هنكون عندك”.
ماذا يريد “الباشا”؟
كان “زغروف” يتعثر في خطواته وهو ينزل على سلم المنزل الذي يقع بحارة “دبشة”، دون حتى أن يغسل وجهه أو يدخل الحمام من الأساس، لذلك بمجرد أن نزل شعر بأنه محصور، فانتحى جانبا بجوار حائط المنزل لـ “يفك حصرته”، وسط نظرات المارة المشمئزة، لعلمهم أنه نزل من بيته للتو.
مشى “حمادة” وهو يغلق أزرار “بنطلونه” أمام المارة على عجل، ودخل المقهى المجاور للحارة، فسأله “القهوجي”: “انزل لك شايك ولا هتصطبح لسه”، فأجابه: “شاي ايه ياعم مفيش وقت”، وطاف يبحث عن “شلة المقاطيع” الذين يجلسون على المقهى في ذلك الوقت، فلم يجد سوى أربعة، جذبهم من ياقات قمصانهم سريعا، وذهبوا للبقية في بيوتهم وأيقظوهم على عجل، ليكتمل العدد عشرين، وذهب الجميع إلى قسم السيدة زينب لمقابلة “شريف البنهاوي”.
“أحلى صباح على أحلى باشا”، ألقى “حمادة” التحية على الضابط شريف في مكتبه، بينما كان العشرين “نفرا” ينتظرون بالخارج، لم يرد “شريف”، بينما كان ينفث دخان سيجارته ويخرج من درج مكتبه 20 “رزمة” ورق، ألقاها أمام “زغروف” قائلا بنبرة عصبية: “بص يالا يابن الـ…. انت، دول 2000 استمارة لترشيح الريس السيسي لفترة جديدة اسمها علشان نبنيها.
هتاخدهم انت والكام عيل اللي بره دول تلفلي بيهم على المحلات والبياعين والقهاوي، تقولهم يمضوها من سكات، أنا عايز الـ2000 استمارة دول يجولي ممضيين النهاردة، ومتستنصحش وتمضيهم انت والعيال اللي بره بنفسكو، هعرف وساعتها هتتعلق انت وهم”.
لم يجب “زغروف”، لأنه لم يفهم من الأساس، قبل أن يستكمل “شريف البنهاوي”: “المحل ولا القهوة اللي تعصلج معاك تجيبلي اسم صاحبه وعنوان المحل وانا هنزل أطلع… أمه، وعرفهم كده، وكل يوم هتعدي عليا الصبح تاخد زيهم انت والعيال اللي بره ومش هكلمك ع الموبايل تاني انت عرفت معادك.. يلا غور”.
بداية المهمة
أخذ “زغروف” الأوراق وخرج ليلقيها في وجه الـ 20 فردا الذين كانوا ينتظرونه خارج المكتب قائلا: “بصوا بقى انا مش فاهم حاجة بس باين إن شريف باشا على آخره، كل اتنين منكو هياخدوا رزمتين من دي ويلفوا على المحلات والقهاوي والمطاعم وكله، والناس كمان، كله هيمضي على الاستمارة دي، ولو حد سأل قولوله استمارة تأييد للريس لفترة جديدة، واللي يعصلج اعرفوه وعلموه عشان نقول لشريف باشا عليه هيتعمل معاه جلاشة بنت حرام”.
خرج الـ 20 متطوعا بالإكراه من القسم وبيدهم الاستمارات، اتجه “زغروف” ومعه أحدهم بالـ “رزمتين” إلى منطقته، ودخل أول محل، بوتيك “أبو رحمة”، وقبل أن يتكلم “حمادة” وجد “أبو رحمة” يتحدث في هاتفه المحمول ويشير له بالانتظار، ريثما ينهي مكالمته، استمع “حمادة” إلى “أبو رحمة” وهو يقول في الهاتف: “ياستي دبري نفسك بقى هنعيده تاني ما انتي شايفة الحاجة غليت ازاي وانا محتاج الفلوس اللي معايا هجيب بضاعة عشان المحل فضي.. منه لله ابن الجزمة نشفها علينا، لأ ولسه عايزين يرشحوه لفترة رئاسة جديدة عشان يشفط شوية الدم والعافية اللي فاضلين، يلا سلام دلوقتي”.
أصوات الخيشوم
ارتسمت ابتسامة بلهاء على وجه “زغروف” فأظهرت أسنانه الصفراء، قائلا: “صباح الفل ياعم ابو رحمة، ياعم قول الحمد لله أدينا عايشين، خد امضي”، فرد أبو رحمة: “أمضي على ايه إيه الورق ده”، فقال “زغروف” بنفس الابتسامة البلهاء: “دي استمارة تأييد للريس عشان يرشح نفسه لفترة جديدة”.
لم يسعف “أبو رحمة” سوى صوت اعتراضي أخرجه من خيشومه، حيث رد عليه “زغروف” بخيشوم أعنف، قائلا: “إنت بتشـ…. ياعم ابو رحمة، انجز ياعم ورانا غيرك امضي، شريف باشا البنهاوي بتاع مباحث السيدة اللي باعتنا، وقالنا اللي يعصلج قولولي، خلص ياعم ابو رحمة ما هو كده كده ناجح”، لم يجد الرجل المسكين سوى التوقيع، بينما كان يتمتم بكلمات في سره، يبدو أنها كانت دعاء على الرئيس أو على نفسه.. لا نعلم.
لم ينس “زغروف” أن يأخذ توقيع “زبونين” دخلا البوتيك، بالإكراه، بعدما توعدهم بأن “بوكس الحكومة بره هيلم أي حد ممضاش”.
كان “حمادة” يدخل المحل تلو الآخر، والاستمارات تتناقص، صحيح أن الكثير وقع عليها وهو يسب ويلعن الرئيس والحكومة، لكن لا يهم، المهم أن “شريف البنهاوي” لا يغضب، دخل “زغروف” المقهى وأخذ توقيع كافة الجالسين بالترغيب والترهيب، هم يعرفون أنه ليس لديه ما يرغبهم به سوى الحشيش، لكن الترهيب كان أقوى.
الرافضون
فقط رفض خمسة شبان التوقيع، طلاب جامعيون أصدقاء من أبناء المنطقة كانوا يجلسون على المقهى لتناول الإفطار وشرب شاي بحليب، قبل ذهابهم إلى كلياتهم، عرف “حمادة” عناوينهم، بعدها ساومهم على شراء الحشيش منه مقابل ألا يبلغ “شريف باشا” عنهم، لكنهم رفضوا أيضا.
شاب آخر يدعى “محمود راضي”، افتتح مطعما جديدا، يساعده فيه شقيقه، بينما تجلس الأم على ماكينة “الكاشير”، رفضوا التوقيع، وتوعدهم.
المصالح الحكومية
خلال جولته، علم “زغروف” من أحد أبناء المنطقة، الذي عاد لتوه من مقر السجل المدني، أن استمارات شبيهة بتلك التي يتجول بها، موجودة مع موظفي السجل، ويقومون بأخذ توقيعات المواطنين المترددين على السجل لإنهاء معاملاتهم عليها، ومن يرفض أو يظهر تبرمه يتم إيقاف مصلحته ورفض أوراقه.
الحال نفسه كان في إدارة المرور للمتقدمين للحصول على تراخيص قيادة وتسيير، وكذلك في مقر الشهر العقاري.
بعد أن أنهى الجميع مهمتهم، تقريبا، كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهرا، تجمعوا بالقرب من القسم، لكنهم فوجئوا أن هناك استمارات لم يتم توقيعها، بسبب تكاسل البعض، فجمعوها ودخلوا جميعا إلى سوبر ماركت كبير بجوار القسم مليء بالزبائن، فأجبروا الجميع على التوقيع، زاعمين أنه من لم يوقع فإن هناك قوة أمنية من القسم تنتظره بالخارج.
“غارة” على السوبر ماركت
شعر “زغروف” ورفاقه بالجوع، فطلبوا من صاحب “السوبر ماركت” أن يعد لهم إفطارا سريعا، جبن من كافة الأنواع ولانشون وتونة وحلاوة طحينية وعددا كبيرا من أرغفة الفينو وافترشوا ثلاجة الآيس كريم وتناولوا عليها الطعام بهمجية، وقبل أن ينصرفوا طالبهم صاحب المحل بحساب ما أكلوه، والذي تجاوز 200 جنيه، فنظر له “زغروف” بخبث قائلا: “استمارتك اللي ماضي عليها معايا اهي.. اقطعها دلوقتي 100 حتة ونحرقها وندخل نقول لشريف باشا في القسم انك مرضيتش تمضي وغلطت في سيادة الريس وانت عارف الباقي”.
امتقع وجه صاحب السوبر ماركت ولم يرد، مكتفيا بالقول بنبرة خافتة: “حسبي الله ونعم الوكيل فيكو ياولاد الـ…..”.
بقي أن تعرف أن الشبان الجامعيين الخمسة موجودون الآن في حجز قسم السيدة زينب، وجار عرضهم على النيابة بتهمة محاولة قلب نظام الحكم والتظاهر، رغم أنه قبض عليهم من بيوتهم، وأقنع “شريف البنهاوي” أهليهم بأن عليهم أن يشكروه لأن أبناءهم لم يتم ترحيلهم إلى “أمن الدولة”، أو تصفيتهم بهدوء.
أما صاحب المطعم الشاب، فقد تم تشميع مطعمه، ومصادرة الأدوات، في حملة مفاجئة للبلدية والحي، والغريب أنها لم تصادر شيئا من أصحاب المحلات المجاورة، وعند سؤالهم أفادوا بأن المطعم ليس له ترخيص ومخالف لاشتراطات الأمن الصناعي.
اضف تعليقا